ذكرى جمال عبد الناصر دروس وعبر

46 عاما مضت على وفاة الزعيم جمال عبد الناصر، وجماهير الشعب المصري صغارا وكبارا تستحضر ذكراه، بل وتفتقده يوما بعد يوم وعاما بعد عام، نكاد أن نجزم أنه خلال العصر الحديث لم تحظ مصر بحاكم استطاع أن يلمس هموم بلده، ولا احتياجاتها ولا آمالها العريضة ليضعها نصب عينيه غير عبد الناصر.

وواقع الأمر بأن هذا الزعيم الفذ لم يكن أقوالا بلا أفعال، بل كان مجموعة من القدرات الفائقة ووضوح الرؤية وسعة الأفق والخيال معا. لقد استطاع في فترة وجيزة جداً أن يحقق للمصريين من الأحلام ما فاق خيالهم بالفعل، وليثبت هذا الرجل أن الإردة الحقيقة هي السبيل الوحيد لتحقيق أي إنجاز وإلا صارت الوعود كلاما أجوفا لا يساوي الحبر الذي كتب به.

إن سيرة عبد الناصر اغزر وأعظم من نتلوها في أسطر قليلة، بل أن أي قائد أو حاكم يريد لنفسه النجاح الحقيقي لابد له أن يدرس الحقبة الناصرية بمنتهى النزاهة والأمانة ليقف على مواطن القوة والعبقرية فيها فإن الأسس لا تتغير ولكن في اأساليب غير ما شاء لك التغيير

عبد الناصر وحلم الفلاح المصري البسيط

سوف نستعرض اليوم قضيتين فقط في حياة عبد الناصر نبدؤها بإصدار قانون الإصلاح الزراعي، حيث ادرك بحسه الوطني معاناة الفلاح البسيط الذي سلبت أرضه عبر دهور لتضاف لإقطاعيات البشاوات والبهاوات والشركس مع حفنة صغيرة من البشوات المصريين. وأنه عاش حياته أجيرا في أرضه لا يحظ بما يقيه شر الفاقة والعوز، وحيث تفشت فيهم الجهل والمرض وضاع وكل أمل لهم في الحياة، يعيشون حياة السخرة في أرض الأقطاعي الذي لا يعرف إلا السوط يلهب به ظهورهم. أولادهم أيضاً محرومون من التعليم والحياة الكريمة بل يستكمل الإبن مشوار أبيه في فلاحة أرض الباشا.

من هم الإقطاعيون ملاك الأرض؟

إنهم حفنة من علية القوم فيهم العزة والسطوة والمال، إنهم مركز عظيم من مراكز القوي الذين يخشى جانبهم وتهتز الأوساط لذكر أسمائهم. أي نحن بصدد قوة غاشمة متحكمة وليسوا بالشيء الهين.

عندما قرر عبد الناصر إصدار قانون الإصلاح الزراعي وأطلق شعار الأرض لمن يزرعها كان ذلك في التاسع من سبتمبر عام 1952 ، بينما الثورة قامت في 23 يولية عام 1952، أي أن هذا القانون قدر صدر بعد قيام الثورة بأقل من شهرين اثنين. هل لكم أن تتخيلوا أنه بموجب هذا القانون يتم نزع ملايين الأفدنة من ملاكها الإقطاعيين لتوزع على الفلاحين المعدمين بواقع خمسة أفدنة لكل فلاح؟ كيف من الممكن أن يكون رد فعل أصحاب المصالح الذين تضرروا من جراء إصدار هذا القانون؟

دعونا نقارن مثل هذا القانون وتداعياته وكم حشد من عداوة لعبد الناصر وكم من المكائد دبرت للتخلص منه، وكم تواصلوا مع الخارج لإسقاطة فالقانون لم يمر مرور الكرام ولكنه قال كلمته وتحمل نتائجها بكل شجاعة وكسب ملايين الفلاحين الذين كانوا بالأمس القريب تعساء فأصبحوا بين ليلة وضحاها هم الأسياد أصحاب الأرض

اليوم عندما تصد رضريبة مثلا على أرباح البورصة لا يستمر تطبيقها أكثر من أيام وتلغى فورا لأن سطوة أصحاب المصلحة تتغلب على ما عداها. وهنا يكمن السؤال: كيف استطاع الشاب البكباشي جمال عبد الناصر الذي كان عمره وقت قيام الثورة 33 عاما أن يقف ويواجه شراسة الإقطاع اللعين بكل مؤامراته وتحدياته بكل شجاعة وجسارة

حلم بناء السد العالي

وتلك هي القضية الثانية التي نستعرضها معا اليوم، لأنها بحق تجسيد لإرادة شعب منحه رئيسه ولأول مرة الشعور بالأمل في الغد وفي إمكانية تحقيقة لواقع نعيش في خيراته حتى اليوم (وليست مشاريع فنكوش ونهضة مزيفة).

لم يكن السد العالي فكرة عبد الناصر لكنه كان حلما تناوبته الأجيال ” كان حلما، فخاطرا، فاحتمالا.. ثم أضحى حقيقة لا خيالا”. إلى أن جاء من هو قادر على صياغة هذا الحلم إلى حقيقة عشناها ونعيشها وسنبقى نعيشها إن شاء الله. بني السد العالي بدراسة جدوى حقيقية تحسب للسد مردوده على مدى سنين طويلة وليس من أجل الفرقعة الإعلامية و” نخلي الشعب يفرح”.

وعلى غرار المتبع توجه عبد الناصر للبنك الدولي للحصول على قرض لبناء السد فماذا كانت النتيجة وماذا كانت الردود؟

فوجئ عبد الناصر بمجموعة من الشروط التعجزية، والتي تفرض على الدولة سياسة تقشف معينة حتى تضمن امكانية سداد القرض، كما تشترط أن يكون لها خبراء في وزارة المالية ووزارة الاقتصاد لمراقبة الأداء الحكومي وضمان تنفيذ شروط البنك.

رفض عبد الناصر شروط البنك الدولي لأنه وجد بها مساسا بالاستقلال الوطني، والإرادة الشعبية، واتجه إلى الداخل باحثا عن ثروات بلاده المهدرة (كانت في هذه الوقت مهدرة وليست منهوبة). وأول ما فكر كان في قناة السويس، القناة المصرية التي حفرها أجدادنا وراح فيها الألاف يتساقطون من الجوع والعطش والمرض في أثناء حفرها، ثم أصبحت بعد ذلك لا نملك فيها سهما واحدا بعد أن بدد الخديوي إسماعيل حصتنا بالكامل بالبذخ وصرف الأموال في غير محلها، والاقتراض من الخارج حتى تم تسديد كل هذه الديون من حصة مصر في القناة. وهكذا قام عبد الناصر بتاميم قناة السويس واستردها للشعب المصري صاحب الحق فيها مع صرف قيمة ما لكل دولة من مستحقات كديون مجدولة. وواجه عبد الناصر بسبب تأميم القناة شريان الحياة للعالم أجمع حربا شعواء شنتها إنجلترا وفرنسا وإسرائيل، ووقف الشعب كله خلف القائد، ودحر الاستعمار، وتم بناء السد العالي الذين لازلنا نعيش من خيراته إلى الآن.

تلك هي إرادة زعيم سانده شعبه لآنه حقق معه آمالا وبنى مجداً وصروحا اقتصادية صناعية وزراعية وعدالة اجتماعية وتكافؤ للفرص بين الناس فقدها للأسف بمعرفة كل من جاء بعد عبد الناصر ليتولى هدم جزء من إنجازاته العظيمة.


قد يهمك:

عن الكاتب:
اترك رد