تحت عجلات القطار موت أم حياة

يفزعك بصوته القوى، وجلبته وحضوره الصاخب في المكان، وحين ترمقه قادماً من بعيد، مجلجلاً في الفضاء، وضارباً للأرض بقوة وعزم، ترتعد فرائصك خوفاً من بطشه، فتفر هارباً مذعوراً من أمامه كائناً من كنت، فكل من سبق ولم يكترث له، وأصر على الوقوف أمامه، لم يسلم من أذاه، فهو لا يفرق بين غني ولا فقير، ولا قوي ولا ضعيف، ولا صغير ولا كبير، كل ما يعرفه في هذه الحياة هو المضي قدماً في طريقه المستقيم.

تحت عجلات القطار

تحت عجلات القطار

رأيته أول مرة في حياتي، وكنت حينها طفلاً صغيراً، عندما كنت في زيارة لجدي في القرية، ورأيته من شرفة منزل جدي، فكاد قلبي أن ينخلع من مكانه، وأنا أراه مقبلاً من بعيد، يزأر بصافرته المدوية، ويزمجر بدخانه الكثيف في عكس اتجاهه، وعرباته الكثيرة الضخمة، التي تتحرك خلف بعضها البعض في انتظام بديع، وبقوته الضاربة، التي لا يثبت في وجهها شيء.

إنه صديقي القطار، تقابلنا مرتين عن قرب، المرة الأولى: عندما ألقي بصديقي مكبلاً أمام عجلاته، وحين رأيته أمام القطار وقد اقترب منه تجمد الدم في عروقي، ووقفت عاجزاً عن الحركة، وأغمضت عيني حتى لا أراه وهو يتقطع إرباً، ودعوت الله أن ينقذه لكنني لا أعرف كيف؟ وحين فتحت عيناي، وقد امتلأ قلبي بالخوف والذعر والفزع، سمعت أصواتاً تهلل وتقول: الحمد لله !!! الحمد لله !!! لقد استجاب الله لابتهالاتي، ونجاه من بين عجلات القطار؛ بفضل رجل عجوز انتشله في آخر لحظة من أمام القطار المندفع كالسيل الهادر.

والمرة الثانية: عندما رأيت ذلك العملاق الضخم، وقد بدي عاجزاً، متهالكاً، تعصف به الريح، يصارع الموت، وخلفه ذلك القطار الشاب القوى، والذي يضربه من الخلف بكل قوة، وكأنه أشبه بصراع بين العملاقة على ضفاف نهر النيل العظيم.

جثث متناثرة، أشلاء متقطعة، وملابس ممزقة، وأغراض متطايرة، وكتب وأقلام وأوراق وأحذية مبعثرة، ودماء تسيل في كل مكان، وصرخات صاخبة لأحلام مستقبلية أسكنها الموت لا يزال  صداها يتردد في أذني، وشاب يصرخ بأعلى صوته، وكأنه خرج للتو من قبر في باطن الأرض، أشعث الشعر، مغبر الوجه، شاحب اللون، مرتعد الفرائص، يصرخ دون توقف، أنقذوا أخويا، أنقذوا أخويا… نظرت إلى جواره فإذا بشاب في مقتبل العمل، وهذه العربة العملاقة، جاسمة فوق قدمية، والدماء تتفجر من كل مكان في جسده، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، في مشهد مروع.

في المرة الأولى، كانت عجلات القطار أجراس إنذار وطريقاً للحياة والسعادة، فقد كان صديقي مسرفاً على نفسه في المعاصي، مستهتراً في حياته، رافضاً كل نصيحة تقدم إليه من قريب أو حبيب، حتى تعرض لحادث سرقة سيارته، ولم يكتفي اللصوص بذلك فحسب بل، قيدوه وضعوه في كيس أسود كبير للنفايات على قضبان القطار، وفي اللحظة التي استطاع فيها أن يخرج رأسه منها ويستغيث، كان القطار قد أوشك على الوصول إليه، لولا ذلك الرجل العجوز الذي أنقذه واختفى بين الزحام.

يقول صديقي: في تلك اللحظة تذكرت كل ذنوبي وأخطائي، وتبت منها، واستسلمت لله، وعاهدت الله إن نجاني من تلك المصيبة لن أعود كما كنت، وسوف أبذل جهدي لإصلاح نفسي، ومساعدة كل من يحتاج إلى مساعدتي، ولما علم الله صدق نيته نجاه من بين براثن عجلات القطار الفتاكة.

وفي المرة الثانية: كان سعيد يحاول كبح جماح أحلام أخيه خالد وطموحاته وآماله التي لا تنتهي، ويقول له رفقاً بنفسك، فتلك الأحلام التي تسعى لتحقيقها تحتاج إلى زمان، وتحتاج إلى أموال، وتحتاج إلى جهود كبيرة وجبارة لتحقيقها، فكان يبتسم ويقول، العمر طويل، والإنسان لازم يكون لديه طموحات كبيرة يسعى لتحقيقها.

وفجأة ينقلب القطار، وتتطاير الأحلام، وينقضي العمر الطويل في لحظات تحت عجلات القطار، ويصرخ سعيد: أخي… أخي… أنقذوا أخي! ولكن لات حين مناص.


قد يهمك:

عن الكاتب:
اترك رد