أطلال بيت جدي القديم – خاطرة في قصة قصيرة

كنت طفلاً صغيراً، حين رأيته لأول مرة في حياتي والدموع تنهمر من عينيه كالسيل الجارف، فلأول مرة أراه يبكي ويتنهد بحرقة وألم، ولم أكن أتخيل يوماً أنني سوف أرى هذا الجبل الأشم يبكي كما نبكي، فأبى رجل طويل وقوى ومفتول العضلات، وثابت كالطود العظيم، نستلهم جميعنا منه الصبر والثبات والشجاعة في كل المواقف، وبالرغم من تجاوزه لحاجز الخمسين عاماً منذ بضع سنوات، إلا أنه حين علم بوفاة جدى –رحمه الله- انفجر في البكاء كالطفل الصغير.

منزل جدي القديم

منزل جدي القديم

كان أبي الابن الوحيد لجدي، وكانا صديقين حميمين، وترسخت صداقتهما أكثر بعد وفاة جدتي -رحمها الله-، وكنا نعيش معه في بيت شعبي عتيق الطراز بالقرية، وبعد وفاة جدي بسنوات، وبسبب اتساع أعمال أبي التجارية، اضطررنا للانتقال للعيش في المدينة،  ومضى قطار العمر والزمن سريعاً، وبعد سنوات ليست بالقليلة، اصطحبنا أبي في زيارة للقرية، لقضاء العطلة في منزل جدي القديم بالقرية.

بدى من بعيد شامخاً كأبي وجدي، لكنه كان أكثر تأثراً منهما بمرور الزمن، وعوامل التعرية، فقد بدت ملامح الكبر على أسواره الشاهقة المتهدمة، وتجاعيد الزمان على جدرانه المتكسرة، وأصبحت أشجاره الطويلة منحنية الظهر وطاعنة في السن، وغدت ألوانه القديمة شاحبة ومخيفة المنظر، كل شيء بدى قديماً، وكأنه أطلال لبيت تسكنه الأشباح، والشيء الوحيد الذي بدى وكأنه وليد اللحظة، هي ذكرياتنا الجميلة في هذا البيت العتيق.

حين وقفت السيارة أمام المنزل، وفتح الخادم أبواب البيت، انشغل الجميع بإدخال الحقائب إلى داخل البيت، إلا أبي، فقد تنحى جانباً، وأسرع في الدخول لغرفة جدى، وأغلق عليه الباب، تسللت للغرفة، لأنظر ماذا يفعل؟ وفتحت الباب برفق شديد دون أن يشعر، فإذا بأبي يبكي للمرة الثانية، وهو يحتضن بشدة مصحف جدى، ونظارته، وعمامته، وعصاه التي كان يتكأ عليها في آخر أيامه، وهو يخاطبها ويبكي ويقول: رحمك الله يا أبي، كم اشتقت إليك.

تناولنا طعام الغداء في القرية، والذي كان مختلفاً ورائعاً، وبعد الغداء خرجت بصحبة أبي إلى فناء البيت، فإذا بسيارة جدي القديمة، فتهلل وجه أبي بالسرور والفرح، وظل يدور حولها، ويتفقدها، وكأنه وقع على كنز ثمين، ثم غاص في أعماق الذاكرة، ليعود بجوهرة نادرة من ذكريات الماضي، ثم قال لي: يا بني: هذه أول سيارة قدتها في حياتي، إنها سيارة جدك -رحمه الله-، كانت سيارة حديثة الطراز وباهظة الثمن، وكنا نتجول بها معاً في أرجاء القرية، ونشتري بها احتياجات المنزل.

كنت أشعر بالفخر وأنا بجوار أبي في تلك السيارة الفارهة، وكانت قيادة تلك السيارة إحدى أمنياتي في صغري، وذات يوم فاجئني أبي برغبته في أن يعلمني قيادتها، وبالفعل أمسكت بالمقود لأول مرة في حياتي، وشعرت وكأنني امتطى السحاب، وأطير في السماء، وأبي يساعدني في القيادة، ووجهه يتهلل من الفرح والسعادة.

وذات يوم قررت قيادة تلك السيارة وحدي، وبدون علم أبي، فخرجت وهو نائم، وأخذت مفاتيح السيارة، وخرجت أتجول بها وحدي في شوارع القرية،  وفجأة اصطدمت بأحد أعمدة الإنارة، وسقط أحد أسلاك الكهرباء عليها، وتحطمت مقدمة السيارة، وفقدت الوعي، وتجمع الناس حول السيارة لإنقاذي، وأخروني منها، ونقلوني إلى مستشفى القرية.

بعد ساعة من كاملة، أفقت من تلك الصدمة، وعندما أفقت كان كل همي، ماذا سوف تكون ردة فعل أبي؟ لقد عصيت أوامره، وأخذت مفاتيح السيارة دون علمه، وقدتها وحدي، والأدهى من ذلك كله أنني حطمتها، وقبل أن أستطرد في أفكاري، وجدته أمامي، فانخلع قلبي من مكانه، لكنه تقدم نحوى بكل هدوء وثبات واحتضنني بقوة، وقال: لا تخف يا بني، فداك كل شيء، أنت عندي أغلى من كل كنوز العالم.

تعلمت من تلك الزيارة أن السعادة الحقيقية لا تقاس بالأثاث الفاخر، والسيارات الفارهة، والأبراج الضخمة، والأموال الطائلة، ولكنها بالحياة الاجتماعية البسيطة، والعلاقات المترابطة، والذكريات الجميلة.


قد يهمك:

عن الكاتب:
اترك رد

2 تعليقات
  1. غير معروف يقول

    نعم السعاده الحقيقيه هى الشعور بالطمأنينة والرضا والاكتفاء بالذات مع الاحبه والذكريات الجميلة والحياة الاجتماعية البسيطة.

    1. هاني نبيل عبد الحميد يقول

      بالفعل هذه هي أهم وسائل السعادة، وشكرا على هذا التعليق الجميل