المثالية الواقعية، وادعاء المثالية الزائفة

النهاية المثالية:

المثالية المزيفة

المثالية المزيفة

كانت البداية مع رواية النهاية المثالية، والتي كنت أتوقع أن أستلهم منها الكثير من المعاني حول المثالية، فقد سحرني عنوانها البراق، وديباجتها الساحرة، عندما ظهر أمامي فجأة غلافها الجذاب، وأنا أبحث على الشبكة العنكبوتية عن بعض المعلومات عن الفلسفة المثالية، وهنا كانت الصدمة الكبرى، حيث تبين بعد قراءة الرواية؛ أن تلك المثالية المزعومة في تلك القصة السخيفة؛ والتي حققت مع الأسف الشديد مئات الآلاف من المشاهدات الزائفة كعنوانها، تلخص قضية المثالية في جملتين: شاب رياضي وسيم وفائق الجمال وبالغ الثراء ومن عائلة سياسية مرموقة، يقع في غرام فتاة تشبهه؛ وتلك هي النهاية المثالية للقصة!!!

تمنيت في تلك اللحظات أن أحطم رأس كاتب هذه الرواية، ولكن الحمد لله أن المسافات والشاشات والأنترنت وقفت كلها مصطفة كحائلاً بيني وبينه، ثم صادف بعدها وأنا أقلب بين القنوات اللامتناهية على شاشة التلفاز الصغير، وبالصدفة العابرة،  احتفالاً صارخاً لتكريم الأم المثالية، والتي كانت بالفعل أكبر صفعة مدوية في وجوه كل الباحثين عن المثالية، ناهيك عن التناقضات التي تراها وتسمعها في كل مكان، والتحولات اللامعقولة واللامقبولة في الآراء والتوجهات استناداً للحب والكراهية، أو المنفعة والمصالح الشخصية.

الطريق إلى المثالية من الظلام إلى النور:

فقررت في تلك اللحظة أن أكتب عن المثالية الحقيقية، واستخرجها من بين براثن تلك المثالية المزعومة والزائفة.

إن هناك العديد من المسميات والمترادفات والادعاءات الكاذبة حول مفهوم المثالية، منها: المثالية الكاذبة، والمثالية الزائفة، المثالية المخادعة، والمثالية المفرطة، المثالية الخيالية، والكمال السمج،… الخ، وكلها عندي تمثل الجانب المظلم للمثالية في الكتابات والأقوال المتجردة عن الأفعال المطابقة لها والمتسقة معها.

كما أن هناك أيضاً العديد من المسميات والمترادفات والحقائق المتطابقة حول مفهوم المثالية الفعلي، منها: المثالية الحقيقة، المثالية الواقعية، المثالية الفعلية، المثالية المطلقة، المثالية الذاتية،… الخ، وكلها تمثل الجانب المشرق والوجه المضيء للمثالية التي يتطابق فيها القول مع الفعل والتدوين، ولا أتحدث هنا عن المفهوم الفلسفي والحرفي لتلك المترادفات.

تعريف المثالية:

كل ما زاد عن الحد انقلب إلى الضد”، يا لها من حكمة رائعة، ومقياس فريد، يجعلنا نستطيع التفرقة بين الأشياء والمسميات والمصطلحات، فنقف عند حدودها، ونميز بين بعضها، ونستخرج الصواب من الخطأ.

إن تعريف المثالية في علم النفس يأتي كسمة شخصية تظهر في رغبة الفرد الشديدة وسعيه الدائم نحو الكمال والتخلص من كل العيوب والأخطاء، ولكنني أعتبر بأن هذا التعريف مخالف للواقع، والمنطق، لأن المثالية لا تعني بالضرورة عدم وجود أخطاء، فالخطأ نسبي، وتختلف النظرة للفعل كونه: (صواب أو خطأ) من شخص لآخر، ومن مجتمع لآخر، ومن ثقافة لأخرى، والراجح عندي أن المثالية: هي سمات أساسية مرتكزة في عقولنا الخاصة، نتيجة للمعتقدات والبيئة التي نعيش فيها، نسعى من خلالها لتحقيق الكمالُ في الأوصاف المادية والمعنوية الإيجابية، والتخلص من الأوصاف السلبية المتناقضة معها.

التطبيق السلبي لمفهوم المثالية:

الشخصية المثالية تضع نصب عينيها العديد من المعايير لإنجاز الأعمال وتحقيق الأهداف، وغالباً ما تكون هذه المعايير مبالغاً فيها إلى أقصى درجة، وإن طبقت بحذافيرها فإنها سوف تنتج عملاً إبداعياً لا مثيل له، ولكنها غالباً وبالتجريب تكون سبباً في عدم القدرة على إنجاز الأعمال على الوجه المحدد، فيصاب هذا الشخص بالإحباط والقلق والاكتئاب، الذي يجعله يتكاسل عن تنفيذ مهامه، وتحقيق أهدافه.

كما أن كل من يصبو إلى المثالية والكمال يركز على تجنب الفشل أكثر مما يركز على أسباب النجاح، مما يجعله سلبياً للغاية في سلوكياته وتصرفاته، وهذا يؤثر بالتأكيد سلباً في مستوى أدائه، كما أنه يهدر الكثير من وقت العمل الثمين، ويجلد ذاته سعياً خلف تحقيق سراب مخادع من الطموحات المستحيلة والغير معقولة، ويتأثر كثيراً بآراء الناس من حوله؛ بل ويجعلها مقياساً لتقييم ذاته وإنجازاته.

ولا عجب في أن يصاب هؤلاء في نهاية المطاف بلوثة المثالية، فتتحول إلى داء عضال، ومرض فتاك، يؤثر في ذاته وحياته وأعماله، وتنقلب إلى مشاكل صحية ونفسية واجتماعية.

التطبيق الصحيح لمفهوم المثالية الواقعية:

من صفات الشخصية المثالية الواقعية أنها في تطبيقها لنظرية المثالية في العمل، تبحث عن حلول مثالية وإبداعية للمشكلات، من خلال التخطيط المبني على العلم، وتحديد الأهداف، وترتيب الأولويات، والتدرج في حل المشكلات، وتفكيك المعضلات الكبيرة إلى عدة مشكلات بسيطة يسهل حلها على انفراد، ثم تجميعها كوحدة واحدة لحل المشكلة الأصلية، وافتراض الخطط والبدائل في حالة الفشل، وتحديد نسبة واقعية غير مؤثرة ومسموح بها لحدوث الخطأ،  وافتراض أن تلك النسبة لا تضر بتحقيق النتائج المثالية المرجوة.

تظهر الفاعلية في الشخصية المثالية عند التحديات، من خلال حجم الإنجازات التي تستطيع تلك الشخصية تحقيقها، والجودة والإبداع الذي يغلف تلك الإنجازات، دون المساس بالقيم والمبادئ التي ترتكز عليها تلك الشخصية.

أخطر أنواع المثالية:

إن من أخطر أنواع المثالية الزائفة، ادعاء الطهارة والنقاء من الآثام، لأنها خطيئة من أعظم الخطايا، ومن ذا الذي لم تدنسه رائحة المعاصي والذنوب، ومن ذا لذي لم يتدثر يوماً بلباس السيئة خلف الحجب المغلقة، ومن ذا الذي سلم مما لا يسلم منه كل بني آدم.

إن هذا النوع من المثالية المبنية على اعتقاد الطهارة والنقاء استناداً لكثرة الطاعات، لها أثر كبير على النفس البشرية، قد يدفعها للغرور والتكبر وازدراء الآخرين، فيمرض القلب بداء الكبر، ويموت فيه الخشوع، ويتبدد الإخلاص، وتقوى في النفس شهوة الأنانية وحب الظهور.

إن من أجل خطايا وآثام الملتزمين في عصرنا الحديث من وجهة نظري القاصرة؛ هي عدم رؤية عيوب النفس، والانتشاء بشهوة الالتزام والتدين، وكأنهم بلا خطيئة؛ حتى تحولت حظوة النفس بالالتزام والتدين إلى صنم تتوجه إليه نفسه صباح مساء،

وتتعالى به على الآخرين، وكأنها نفس معصومة، لم تقترف معصية البتة، وتركن إلى حفنة قليلة من الأعمال الصالحة؛ تظن أنها كسبت بها الدنيا والآخرة، وهي في الواقع محض أعمال مجردة لا تقدم ولا تؤخر شيئاً إلا أن يتغمدنا الله الجليل بواسع رحمته وعظيم مغفرته وفرط كرمه ولطفه بنا.

إن الأمثلة على ما ذكرت أكثر من أن تنحصر؛ فالنجاة ليست بحجم العمل، ولكن بقدر الإخلاص لله فيه.

 رجل دخل الجنة في غصن شوك أزاحه عن الطريق.

بغي من بغايا بني إسرائيل دخلت الجنة في كلب سقته.

رجل قتل مائة نفس وتاب ودخل الجنة.

امرأة دخلت النار في هرة حبستها حتى ماتت.

رجل قال لصاحبه لن تدخل الجنة فدخل النار ودخل صاحبه الجنة.

النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو أفضل الأنبياء والمرسلين، وخير الخلق، وسيد الأولين والآخرين، لن يدخل الجنة إلا برحمة ربه.

رجل خاف من عذاب الله، فأمر أولاده بإحراقه بعد موته؛ حتى لا يبقى له أثر، فبعثه الله وأدخله الله الجنة برحمته لشدة خوفه من الله.

أعجب القصص: “قصة صاحب الرغيف”.

وفي كل هذه القصص فائدة عظيمة، وهي أن أعمال البر لا توزن بعددها بل بقوة الإخلاص لله فيها.


قد يهمك:

عن الكاتب:
اترك رد