الخوارزمي.. جبر دعاوى كسور قد نالته.. ودرء مزاعم قصور قد طالته

شعلة القريض المتأججة ما انفكت هائجة ولم تخبو بوفاته، ومشكاة الوميض المتوهجة ما فتئت متلألئة ولم تخفت بهلاكه، أرغم الأوربيين الذين وصموا دهره بالعصور المظلمة حيث عاش أن يجعلوا اسمه ملء السمع والبصر في أرقى ملامح هذا العصر وأعقدها، وأكثرها شيوعاً وذيوعاً، وأعلاها استعمالاً واستخداماً..فباتت الخوارزمية المشتقة من اسمه تحكم وتتحكم في الشبكة العنكبوتية المعاصرة…إنه محمد بن موسى الخوارزمي وكنيته أبو جعفر

فها هو الخوارزمي يدير من قبره بعلمه كل أنشطة وسائل التواصل الاجتماعي، وجميع تطبيقات البيع والشراء المعقدة للمتاجر الواسعة المتعددة والمتنوعة على الشبكة العنكبوتية، وأعمال التداول في أضخم البورصات العالمية، وإدارة أعمال المصارف العملاقة، وحركة وسكون الفنارات والمطارات بسفنها التي تمخر عباب البحار، وطائراتها التي تحلق في عنان السماء  بفضل ما وضعه من أسس الخوارزمية algorithm التي تخص البرمجة والتي ـ كما سبق أن أسلفت ـ حملت اسمه قبل أكثر من ألف عام.

وفي المجال الثاني الأعقد في عصور التكنولوجيا الحديثة، لم ينس الغربيون مآثره في الفلك فسميت إحدى فوهات القمر والتي نقلت صورتها المركبة الفضائية أبوللو 11 باسم الخوارزمي.

والمجال الثالث الذي يضرب به المثل في الصعوبة، فهو اللغوريتمات والتي وضع أصولها الأولى قبل استكمالها من علماء رياضيين أوروبيين، وكما هو مرجح من الجميع فإن اسم جداول علم اللغوريتمات وتطبيقاته في مجالاته الأكثر صعوبة (قياس درجات الزلازل) مشتق من اسم الخوارزمي واضع لبناته الأولى

وقبل ظهور عصور الحواسب والشبكات لم يتكرر اسم الجبر لقسم مهم من علوم الرياضيات على مسامع طلبة المدارس والجامعات العربية فحسب، بل هذا الاسم ينطقه كل كل الدارسين للرياضيات في العالم أجمع وكل قارات الدنيا قاطبة لمئات السنين، ليس فقط باشتقاقه العربي، بل بنفس أداة المعرفة في علم القواعد النحوية العربية algebra وهو نفس الاسم الذي وضعه له مؤسسه الخوارزمي.

فعلم الجبر الذي وضع اسسه وهو معني أساساً بالتعامل مع الكسور والتي هي أجزاء صغيرة ومتناهية الصغر من الواحد الصحيح، وهذا اللفظ شائع الاستخدام في حياة العرب في استخدامه المعنوي والحسي معاً على ألسنة العلماء والدهماء على السواء، فيقال “جبر الخواطر على الله”، فلا يمكن جبر الخاطر إلا إذا كان مكسورا، وكذلك استخدامه في مجال طب العظام (جبر الكسر) ” حتى إن الذي يتعامل مع كسور العظام كان يطلق عليه قديماً المجبراتي، بل وإن كتابه الذي دشن فيه ميلاد علم الجبر وكان بعنوان (الجبر والمقابلة) تم ترجمته للآتينية بنفس ألفاظه العربية Liber (algebrae) et (almucabala)

وهكذا أدخل الخوارزمي لفظة عربية شائعة الاستخدام في الشارع العربي في كل المدارس والأكاديميات في كل العالم، قبل أن يدخل اسمه على كل عملية معقدة تجريها الحواسب في كل أنحاء البسيطة.

كما أنه أدخل مفهوم العدد صفر، الذي بدأت فكرته في الهند، واستخدمه في الجبر والذي أمكن عن طريقه حل المعادلات الطويلة، والذي تمت الإشارة إليه بدائرة صغيرة واحتفظ بنطقه العربي cipher

 

أما بالنسبة للأرقام فقد أحل الأرقام العربية محل الأرقام الرومانية اللاتينية في أوروبا المعروفة بصعوبتها البالغة.

والأرقام العربية على عكس ما يعتقد الكثيرون هي المستخدمة في بلاد الغرب فعلى سبيل المثال من واحد لتسعة هكذا 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9 في حين إن الأرقام المستخدمة في بلاد العرب هي بالأساس الأرقام الهندية.

أما الأرقام الرومانية التي كانت سائدة في أوروبا قبل ذلك فهي من واحد لتسعة هكذا I II  III  IV  V  VI  VII  VIII  IX

ولك أن تتخيل حجم معاناة الأوربيين مع الأعداد حينما كانوا يقومون على سبيل المثال بكتابة الرقم 888 بالروماني هكذا DCCCLXXXVIII

 

في الفلك

كان للخوارزمي إنجازات واسعة في علم الفلك، ومنها ما ساهم في كتابة التقويم العبري في أطروحته عن التقويم العبري، بعنوان رسالة في استخراج تأريخ اليهود  . عمل على حساب الموقع الصحيح والدقيق للشمس والقمر والكواكب المختلفة. ساهم في كتابة جداول الجيب للشمس، والقمر والكواكب المختلفة ورؤية القمر. ألف كتاب السند هند في علم الفلك مع علماء آخرين. كتب الخوارزمي الجداول الفلكية اعتمادًا على المصادر والمراجع اللاتينية والهندوسية، واشتملت هذه الجداول على جداول الجيب واستخدام دائرة نصف قطرها يساوي 150 وحدة، حتوى العمل على جداول لحركات الشمس، والقمر وخمسة كواكب معروفة في ذلك الوقت. ومثل هذا العمل نقطة تحول في علم الفلك الإسلامي. حتى الآن،  وقد تُرجمت هذه كتب الخوارزمي عن الأبراج الفلكية التي تخص أشخاصًا بارزين

في الجغرافيا

لا بد من الإشارة لكتابه الربع المعمور أو صورة الأرض والذي أعاد تنظيم وتصحيح أبحاث بطليموس عن العالم ألف كتاب صراط الأرض الذي جمع أبحاث بطليموس، لكن للأسف لم يتم حفظ الخرائط الأصلية، إلا إن العلماء والباحثين تمكنوا من استعادة محتوى هذه الخرائط من خلال ملخصات الخوارزمي الموجودة. شارك في حساب خطوط العرض والطول للكرة الأرضية،

عمل الخوارزمي على الإشراف على عدد من الجغرافيين (حوالي 70) في عمل جغرافي في مشروع يهدف إلى رسم خريطة الأرض بشكل أدق، وهو مشروع علمي جماعي

مخترعات الخوارزمي

قام الخوارزمي بعدة تحسينات هامة لنظرية وبناء المزولات، التي ورثها من الحضارة الهندية والإغريقية. وعمل جداول لهذه الآلات التي اختصرت الوقت اللازم لإجراء حسابات معينة. كانت مزولته عالمية، وكان يمكن ملاحظتها من أي مكان على الأرض. ومنذ ذلك الحين، وضعت المزولات في كثير من الأحيان في المساجد لتحديد وقت الصلاة.

اخترع الخوارزمي في القرن التاسع آلة سميت بمربع الظل، والتي تعمل على تحديد الارتفاع الخطي للأجسام والرصد الزاوي لها.

ساهم اختراع الخوارزمي للآلة الرباعية في تحديد الوقت عن طريق تحديد مكان الشمس والأقمار، وكانت هذه الآلة في ذلك الوقت ثاني أكثر آلة وأداة فلكية مستخدمة حينها.
كما كان له دوره الملموس في تطور جهاز الأسطرلاب المستخدم في الملاحة البحرية والفلك.

أما ساعة الخوارزمي الشمسية فقد كان استخدامها عالمي في حينها.

أقوال علماء الغرب في الخوارزمي

يقول جورج سارتون  (النصف الأول من القرن التاسع بإنه عصر الخوارزمي) ويقول (الخوارزمي أحد أعظم الرياضيين في كل العصور) وذلك في كتابه  تاريخ العلم a history of science

الدكتور ديفيد بوجن سميث قال عنه في كتابه الأرقام الهندية والعربية  hindu and Arabic numerals إنه الأستاذ الكبير في عهد بغداد الذهبي  هو أحد الكتاب المسلمين الذي جمع الرياضيات الكلاسيكية من الشرق والغرب محتفظاً بها  حتى استفادت منها أوروبا ويدين له العالم بمعرفة علمي الجبر والحساب.

كل هذه المساهمات المعجزة هي شاهدة على عبقرية الخوارزمي، على عكس ما يعتقد الكثيرون من الإدعاء بسطوه على منجزات غيره، هذا ما لحظته بأسف وأسى في حساب أحد المشهورين في التواصل الاجتماعي والذي كتب عن الخوارزمي، فكانت التعليقات بأكثر من 90% من متابعيه العرب وهم بعشرات الألاف يتهمونه بهذا الأمرين المشين.

وكانت تعليقات بعضهم إن علم الجبر منسوب إلى مصدر آخر، مثل أولئك الذين قالوا إنها اشتقت من أحد كتاب العرب، وهو جابر بن أفلك الإشبيلي، الذي سماه اللاتنيون جابر Gaber ولكن جابر هذا ولد بعد الخوارزمي بقرنين من الزمان، أي بعد قرنين من ظهور وتداول الكلمة، واستخدام العلم

ويعزو الكثيرون إن اكتشافاته في الأرقام مأخوذة من الهند، وهذا يدعوننا للقول بإن الخوارزمي كان مترجماً من اللغات الهندية واليونانية، وما قام بترجمته أضاف إليه الكثير من عنده في مجالات الحساب والفلك والجغرافيا.

ولم يقتصر اتهام المعلقين العرب للخوارزمي بإنه سارق لمنجزاته، بل طالت عقيدته الدينية، فكانت إتهاماتهم له تتراوح بين المروق والإلحاد، فهو من أئمة الزنادقة وأساطين الملحدين، والرد على تلك التهمة تتطلب إزالة الكثير من الإلتباسات التي أودها كالتالي:

  • وقال ابن العماد في (شذرات الذهب 2/353) عن الفارابي: ((اتفق العلماء على كفر الفارابي وزندقته))، وقالوا عن محمد بن موسى الخوارزمي: ((انه وإن كان علمه صحيحا إلا إن العلوم الشرعية مستغنية عنه وعن غيره)).

وضع ابن الفرات الخوارزمي مع أبو النصر الفارابي في سلة واحدة، الفارابي برع في الفلسفة حتى قيل عنه إنه المعلم الثاني بعد أرسطو، ولكن له شطحاته المعروفة فيما يتعلق بعقيدته الدينية، ولكنه لم يحالفه التوفيق في عبارته الثانية المتعلقة بالخوارزمي.

العبارة منقولة عن  شيخ الإسلام ابن تيمية وحتى لو كانت عن الخوارزمي فهي لا تخرجه عن الملة، هو قالها بالفعل عن الخوارزمي، ولكن خوارزمي آخر غير محمد بن موسى، فقد قيلت في المُحَدِّث  أبو المؤيد الموفق بن أحمد بن محمد المكي الخوارزمي المتوفي سنة ٥٦٨ هجري

أما عالم الرياضيات الذي نحن بصدده أبو عبدالله محمد بن موسي الخوارزمي ولد سنة ١٦٤ وتوفي سنة ٢٣٢ هجري.

  • قال عنه الحافظ شمس الدين الذهبي “العلَّامة كبير المعتزلة”، واتهمه جمهرة من العلماء بإنه معتزلي متزمت، بالطبع هناك الكثير من آراء المعتزلة في العقيدة لا تروق لمذاهب إسلامية أخرى، أيضاً هذا الكلام يخص خوارزمي ثالث هو أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد الخوارزمي المعروف بالزمخشري النحوي وعالم البلاغة الشهير.
  • هل يعقل بأن يقوم الخليفة المأمون بتعيين رجل على رأس “ييت الحكمة” أكبر مؤسسة تعليمية في العصور الوسطى  قادماً من خوارزم متهماً بالزندقة والمأمون نفسه كان من المحاربين للزنادقة؟!
  • في نهاية عصر المأمون المعاصر للخوارزمي ظهرت فتنة خلق القرآن ولم ينزلق الخوارزمي فيها.
  • السبب الرئيسي الذي جعل الخوارزمي يقدم على تأسيس علم الجبر هو حل مسائل المواريث المعقدة، وبالطبع من يقوم بعمل تطبيق لحل مشكلة ما لعلم ما إنه على دراية واسعة بهذا العلم، ومن المتعارف عليه إن باب المواريث هو الأصعب في علم الفقه، ولا يتصدى له إلا فقيه نابه…فهل الخوارزمي فقيه أم زنديق؟!
  • أستخدم الخوارزمي درايته بعلم الفلك في تجديد الاتجاه الصحيح للقبلة ومواقيت الصلاة، واستخدم ساعته الشمسية لذات الغرض
  • كتب الخوارزمي العلمية تبدأ بالحمد لله والثناء عليه.
  • ربما كان اتهام البعض للخوارزمي بالزندقة كونه من أصول فارسية، وهذا خطأ فادح من ناحيتين، لا يجوز إسناد هذه التهمة لجنس معين، فتاريخياً وعلمياً خرج من الفرس أعلام خدموا الدين واللغة العربية، الشئ الثاني ناحية خوارزم ليسوا من الفرس، فغالبيتهم أتراك ومن أقليات من قوميات أعجمية أخرى طاجيك وأوزبك.
  • أمم كثيرة جداً من الأعاجم تفتخر بالخوارزمي وتنسبه لبلادها، أوزبكستان (أوزبك) طاجيكستان (طاجيك)، إيران (فرس)، الأتراك..وحتى الروس أقاموا له تمثالاً  مثل الدول السابقة…والعرب يبخسونه حقه!

 

 


قد يهمك:

عن الكاتب:
اترك رد

5 تعليقات
  1. غير معروف يقول

    شكرا لك ونعم لانصاف العلماء وهو العالم الذي اسس علوم برمجة الحاسب.

  2. غير معروف يقول

    تسلم إيدك أستاذنا

  3. صلاح حسين يقول

    رائع كما عهدناك …

  4. غير معروف يقول

    ماشاء الله، مقال ممتاز عن أهم العلماء المؤسسين

  5. غير معروف يقول

    ماشاء الله عليك تسلم ايدك