قصة البلدة الآمنة للكاتب عادل الشرار

 

 

في بلدة عروبة الصغيرة تعيش عائلة عباس صاحب السبعون عاما الذي كان يخرج الى دكانه كل يوم مع شروق الشمس بعد أن يوقظ ولده الكبير محمد ابن الخامسة عشر ليذهب إلى المرعى جالبا معه خروفا كالعادة، لا تبعد المراعي والدكان كثيرا عن بيت عباس القصاب.

 

– أدخل إلى الدكان يا محمد ولا تستمع إلى أحاديث ذلك المشؤوم، هناك إحساس في داخلي لم يخطئ يوما ان هذا الرجل يخفي شيئا عظيما.

– كما تشاء يا أبي، لكنه يبدوا شخصا كريما يدعوا الى الخير والتسامح.

 

بعد أسبوع دخل محمد والرجل الغريب إلى دكان عباس الذي اتسعت عيناه متعجبا بينما ولده محمد مبتسم وقد بادر بقوله:

– ” لقد أصر هذا الطيب على حمل الخروف عندما رآني اخرج من المرعى رغم أنني أستطيع جره من حبله إلى الدكان، لقد أخبرتك يا أبي أن هذا الرجل طيب “.

شكرهُ عباس ولا زال مذهولا كيف تصادف ابنه مع هذا المشؤوم قرب المرعى في هذا الوقت.

 

زاد خوف عباس من المشؤوم وزاد تذمر محمد من والده الذي كان يحذره كثيرا ويمنعه من سماع أحاديث الرجل الطيب الممتعه على حد قوله.

 

تتبع عباس أخباره وسأل عنه أهل البلدة وكل من يجالسه فلم يسمع إلا خيرا سوى أنه ذو حظ سيء في التجارة فقد خسر المسكين كل أمواله بعدما تعرض للأحتيال من قبل أحد تجار الاحذيه.

بعد منتصف الليل كان عباس يتقلب في فراشه وهو يقول:

” ربما ظلمت هذا الرجل؟ يا ترى ماذا أصاب احساسي؟ أنني في خيبة وحيرة من أمري…”

نادت عليه زوجته:

” منذ خمسين عاما لم تخطئ في تقديرك ونظرتك للحياة فلا تجعل عشرون يوما تبعث في روحك الفشل، راقب هذا الشخص جيدا…”.

 

بعد يومين كان هناك خبر صادم ومضحك في الوقت ذاته الأمر الذي دفع محمد للركض نحو دكان والده، فتح الباب وهو يحاول التقاط أنفاسه من التعب والضحك، قائلا:

” ههه كلاب ههه والدي…”

قاطعه والده بنظرة غضب وأستغراب:

” كلاب ماذا يا ولد ؟ هل هذه نكتة لتضحك هكذا…هل تجاوزت خوفك من الكلاب…!”

جلس محمد على الأرض ورفع يده وهو يهزها يمينا ويسارا بوجه والده بينما يلتقط أنفاسه…:

” لا والدي، أعذرني لكنه…. المسكين فتح محلا…هههههههه…. محلا لبيع الكلاب…. ”

 

يوجد في مدينة عروبة عشرات المراعي الواقعة في نهاية البلدة، كل مرعى محاط بسياج خشبي وفيه كوخ خشبي مكتوب فوق بابه اسم صاحب المرعى.

 

اجتمع المارة حول محل أمسران لبيع الكلاب يلومونه على تبذير أمواله مرة أخرى في مشروع فاشل كهذا فمن يحتاج إلى كلب في هذه البلدة الصغيرة الآمنة التي لا احد يتذكر اخر مرة حدثت عملية سرقة فيها.

 

” لقد أخطأت هذه المرة، يبدوا ان هذا الرجل مجنون وهذا ما يجعل منه شخصا غير مألوف بالنسبة لنا نحن العقلاء ! ” قالها عباس وهو يحك رأسه وقد توقفت اجفانه وشخص بصره كأنه ينظر إلى ما وراء السقف حتى قاطعته زوجته بعد صمت طويل: ” ليس من السهل أن يكون الأمر مجنونا لكنه ربما يتظاهر بذلك لسبب ما، لا تبعد عينك عنه وسنرى ما يخفي عنا سفران فقد بدأ أراه في أحلامي يفعل شيئا سيئا واظنه بدأ في الواقع أيضا….”

 

 

في صباح يوم الجمعة ذهب محمد لأيصال اللحم لبيت خالته وبعدما عاد ناداه صديق والده من المقهى ويبدوا انه لديه أمر مهم فقد أمر محمد ان يقترب منه أكثر لكي لا يسمعهما أحد: ” أسمع يا محمد، ربما لا تعلم أنني اشرب الكحول، وربما لا تصدق أنني البارحة عندما كنت اسهر على الشاطئ قرب المراعي رأيت شخصا قفز السياج وخرج مسرعا وكان يرتدي معطفا طويلا لكنني كنت ثملا لم أستطع القيام أو الصراخ، اسمع لا اريدك ان تخبر احدا سوى والدك لأنه لا احد يصدقني حتى وآن كنت صادقا ”

 

عاد محمد إلى دكان والده ليخبره ما سمع لكنه لم يكن موجودا والدكان مغلق، اكمل محمد طريقه إلى البيت فوجد أن عمه صالح وعائلته عندهم، الأمر الذي دفعه لدخول غرفته بسرعة محاولة منه لأخفاء ابتسامته واحمرار وجهه والطاقة التي تدغدغه قبل ان يضرب الحائط بقبضة يده عدة مرات من الفرح فقد كان يحب ابنة عمه كثيرا وبسبب سكنهم البعيد فهذه صدفة خير من كل ميعاد.

 

خلد أهل البيت وضيوفهم إلى النوم أو هذا ما يبدوا إلا محمد كان في فراشه وقد ادار ظهره وتوجه نحو الحائط يتلمسه بيديه ويتخيل ملامح حبيبته وكأنها نائمه بجواره، يلمس خديها ويداعب شعرها ثم يغمض عينيه ليسمع من جديد ما قالته اليوم وما سمعهُ منها، حتى أنه بدأ يقترب من الحائط ويشتم رائحته ” رائحة حبيبته” وانتهى الامر بقبله كان يتخيلها أكثر نعومة من شفتيها لكنه عاد لوعيه وهو يمسح عن شفتيه تراب الحائط.

 

في صباح الجمعة خرج محمد كعادته بيده كيس لحم لخالته التي ناولته سمكة كبيرة صادها زوجها. اخذ الكيس وعاد يدندن ما قالته له بنت عمه عندما ودعته قبل يومين ” حمودي يا حماده، أنت محبوبي وزياده…” يرددها وهو يرفع يديه لأعلى وينزلها كأنه مخمور…فجأة توقف، أصبح يتنفس ببطئ وبدأت نبضات قلبه تزداد والخوف قيد أطرافه كأنه تمثال، هناك على بعد مسافة قصيرة ربما متر يرى شيئا يخشاه من طفولته، كلب حراسة ضخم يقف في الطريق الضيق، ارتفع صوته وانيابه بدأت تظهر ولعابه وصل الأرض، كان بطول محمد لو وقف على قديمه، إنها معركة غير عادلة !

تقدم الكلب نحو محمد الذي يرتجف بأكمله، تجاوز الكلب تعليمات التباعد الاجتماعي لكونه كلبا! حتى صرخ محمد صرخة أيقظت من في المقبرة وبدون وعي رمى السمكة بوجه الكلب وأستدار راكضا نحو أقرب زقاق، واخيرا جلس على الأرض يلتقط نفسه وأنفاسه… أحيانا هناك أحلام نتمنى عدم حدوثها !

 

نهض الجميع من مائدة الغداء إلا محمد لم يأتي بعد، ” ربما هو يتناول غدائه في بيت خالته…” هذا ما قاله والده. بعد صلاة العصر كان عباس مضطرا للذهاب إلى المرعى هذه المرة ليأخذ نعجة وبينما هو يفك حبلها سمع صوت نباح قريب، أستغرب ذلك وتجاهله ربما كان أحدهم يحقق حلمه ليكون كلباً لكن عندما رفع رأسه رأى الكلب الضخم يهرول في مزرعة جاره. كان سيظن أنه كلب سائب لولا رؤيته لجاره مع أمسران في الجانب الآخر للمزرعة !

” لقد نجح هذا المسكين في بيع كلب بعد أسبوعين، لكن لماذا ؟ وما الحاجة للكلب ؟…” لقد أخذ هذا السؤال مساحة عقل عباس لعدة ساعات حتى أنه نسي أغلاق الدكان ونسي أمر محمد الذي كان مسؤولاً عن أغلاقه.

 

بعد صلاة العشاء عاد محمد إلى البيت بعد عدة محاولات للمرور خوفا من بقاء الكلب في نفس الطريق، كان محمد يحمل الكثير من الأخبار والأسئلة فقد سرد لوالده ما قاله الرجل في المقهى قبل عدة أيام، والكلب الذي اخافه وما سمعه من الناس قبل وصوله للمنزل أن هناك ذئبا في البلدة هاجم أحد المراعي في الأمس وهذا ما دفع الناس للتزاحم على محل سفران لشراء الكلاب بسعر غالي يعادل ٧ نعجات.

 

لقد نجحت تجارة سفران هذه المرة إضافة إلى الخدمة الكبيرة التي قدمها إلى اهالي البلدة من خلال حماية مراعيهم من الذئاب التي لم تكن موجودة سابقا !

 

يوما بعد يوم تنتشر الأخبار حول هجوم الذئاب على المراعي واختفاء الأغنام وهذا ما دفع الناس لشراء المزيد من الكلاب، ومع ذلك كان عباس يمتنع عن شراء كلب من هذا الرجل المشؤوم حتى بعد فقدانه إحدى الخراف، وذلك حينما ذهب محمد صباحا الى المرعى وجد المكان تحول إلى فوضى وبعض الأغنام تنزف وبعضها مقطوعة الحبال وهناك أثار يبدوا أنها أثار ذئب، فغضب وبدأ داخله بالغليان فهو غاضب على ما حصل للأغنام وغاضب على والده الذي يفكر كالقدماء، الأمر الذي دفعه للعودة بسرعة وأخبار والده بما رأى ولومه على تجاهله لخطر الذئاب.

 

أمر عباس ولده بأخذ إجازة والذهاب إلى البلدة التي يسكن فيها عمه صالح وهذا ما لم يرفضه محمد. وأصر الأب على عدم شرائه للكلاب بعد كل ما حدث، وقرر مراقبة المرعى لأنه كان يشعر في أعماقه أن هناك خطب ما وأن ظلام الليل لديه دائما ما يخبئه.

 

قنينة ماء وفانوس هذا ما حمله عباس معه وهو ذاهب إلى المرعى بعد صلاة العشاء لأنه يوم ٢٧ والقمر بخيل الضوء، أغلق باب السياج وتوجه نحو الكوخ. وضع الماء على الطاولة واطفئ الفانوس وعلقه قرب الباب وراح ينظر من النافذتين اللتان تطلان على معظم المرعى على أمل أن يحدث ما كان يتخيله !

 

بعد مدة من المراقبة وما بين غفوة وصحوة سمع عباس صوتا جعله في حالة تأهب فربما الذئب وربما شيء ما لكن الصوت يقترب… خفض جسمه على الأرض وبدأ بتحريك رأسه ببطئ محاولا رؤية مصدر الصوت بعد إرتفاع صوت الأغنام أيضا لكن الظلام كان دامسا ولم يرغب بإشعال الفانوس خوفا من أن يكشف مكانه.

 

بدأ الصوت يقترب والرؤية تزداد لكنها ليست واضحة بعد، قرر عباس أن يتشجع ويدافع عن نفسه واغنامه ضد هذا الكائن المجهول، أشعل الفانوس ووضعه تحت معطفة وفتح الباب قليل واخرج جسمه وهو يحبوا شيئا فشيئا حتى شعر أن الصوت أصبح قريبا ورفع الفانوس نحوه !

 

– ممم ماذا..؟ ممم من أنت؟ كيف تجرئ على سرقتي يا هذا…

نهض عباس تجاه السارق الذي كان يحمل بيديه إحدى الأغنام ودفعه حتى اسقطها منه وأسقطه على الأرض، جلس عباس فوقه وقرب الفانوس على وجه الملثم… ” أيها السافل…” ولكمه في وجه عدة مرات، حتى أحس بحرارة كبيرة في فخذه الأيمن بعدما أخرج السارق سكينا وغرزه فيه. هرب السارق وأستيقظ عباس بعد أن كان مغمى عليه ووجد فخذه ينزف، مزق جزء من ملابسه ليقطع النزيف وهو يقول ” لم أعلم أن الحقيقة لها ثمن، لكن لا يهم ما دمت عرفتها في النهاية وسيعرفها الجميع غدا مجانا! “.

 

خرج عباس من منزله صباحا بعد رفضه لرجاء زوجته أن يستريح حتى يتعافى لكنه رفض ،خرج وهو يعرج وبدأت على وجهه ملامح السعادة التي تبدوا حينما يخفي أحدهم سرا جميلا، توجه نحو المقهى وعندما وصل تعجب الناس لرؤية العجوز عباس الذي لا يراه سوى من يدخل إلى دكانه فهو يعمل يوميا رغم الدخل البسيط الذي يكسبه، صاح بهم قائلا:

– أيها الناس أهالي بلدة عروبة، قد يسأل بعضكم لماذا أعرج؟ ولماذا أنا هنا ؟ وسأجيبكم، لقد صدق أحساسي تجاه الرجل المشؤوم أمسران… – تعجب البعض من وصفه أمسران بالمشؤوم رغم سيرته الحسنة وفضله الكبير… – لم يكن هناك داعٍ لشراء الكلاب فكل ما حدث وسمعتموه من أخبار حول الذئاب هو كذب…- ارتفع صوت الناس ونظر بعضهم إلى بعض بسخرية لما يقوله هذا العجوز وكأنه لم يفقد بعضا من اغنامه…- بالأمس كنت أراقب المرعى وأمسكت بالشخص الذي كان يسرق الأغنام كان سفران هو من فعل ذلك.

 

تعجب الجميع لقول عباس وسخر الكثير منه واتهمه البعض بالجنون والبعض الآخر بالغيره من تجارة أمسران الذي أحبه الجميع بعد حمايتهم المراعي من الذئاب حتى أنه تزوج إبنة رئيس البلدة الجميلة التي كانت أمنية جميع الأهالي، بينما عباس فقد أصبح منبوذا في البلدة وشعر بخيبة كبيرة ترك دكانه بسببها ومات بعد أيام قليلة.

 

الكاتب عادل الشرار

 


قد يهمك:

عن الكاتب:
اترك رد

تعليق 1
  1. xx0552167079@gmail.com يقول

    حلم انا صاحب الصورة من السعودية الما لك الطيب احمد مفزع القحطاني من ابها عسير 966552167079