قراءة في رواية لبيك حج الفقراء لمالك بن نبي

يتبادر إلى الذهن كلما ذكر اسم مالك بن نبي أمامنا “الحضارة ومشكلاتها” لأنه ببساطة فيلسوف الحضارة الذي جاءت كل كتبه تحت عنوان “مشكلات الحضارة” ولكن القليل منا يعرف أن لمالك بن نبي رواية، وهي رواية “لبيك حج الفقراء” والتي يقول عنها في رسالته إلى الناشر: “إن الرواية التي أتقدم بها إليكم قصة مرتجلة لحج بطلي القصة، كتبت القصة في غرفة فندق بين سفرتين متقاربتين جدا”، الرواية مستلهمة من من حج أمه والحكايات التي حكتها له عن حجها وبقيت مغروسة في روحه مثلما ذكر ذلك في كتابه “مذكرات شاهد على القرن”.
الفيلسوف والمفكر مالك بن نبي مؤلف سلسلة مشكلات الحضارة
مالك بن نبي
ولد المفكر والفيلسوف مالك بن نبي في مدينة قسنطينة، الجزائر، سنة 1905، بعد انهاء دراسته الثانوية انتقل إلى باريس لإكمال دراسته حيث تخرج عام 1935 مهندسا كهربائيا، ولأن تفكيره منذ نشأته كان متجها نحو ملاحظة وتحليل الأحداث والقضايا التي تدور في محيطه فقد اتجه إلى دراسة مشكلات الحضارة حيث أصدر العديد من الكتب التي تهتم بمشكلات عصره بوصفها وإعطاء الحلول لها من أجل بناء الحضارة التي كان يفكر ويحلم بها، توفي بالجزائر في 31 اكتوبر 1973.
رواية لبيك حج الفقراء
الرواية الوحيدة لمالك بن نبي لبيك حج الفقراء
صدرت رواية لبيك حج الفقراء سنة 1947 بعد عام من صدور أول مؤلفات مالك بن نبي الظاهرة القرآنية وصدرت باللغة الفرنسية عن دار النهضة بالجزائر ترجمها إلى العربية الدكتور زيدان خوليف، عنوان الرواية مقتبس من العبارة التي يرددها المسلم خلال أدائه فريضة الحج: “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك”.
ملخص رواية لبيك حج الفقراء
تدور أحداث رواية لبيك حج الفقراء في مدينة عنابة بونة سابقا إبان الحقبة الاستعمارية حيث يصف مالك بن نبي حياة الجزائري البسيط في مدينة طغى فيها النمط الأوروبي ملخصا المشهد الاجتماعي الجزائري لذلك الوقت في شخصيات الرواية:
• العم محمد: الذي جسد الأصالة المتجذرة في الأمة بنهيه عن المنكر وأمره بالمعروف والمساعدة عليه.
• ابراهيم السكير: جسد الجيل الذي احتك وعايش المجتمع الأوروبي في الجزائر والذي انحرف عن الطريق السليم إلى السكر وتاه بين عمقه وما تجدر فيه من أصالة تعلمها على أيدي والديه وما تأثر به وطفى على سطحه من مخالطته للمجتمع الأوروبي.
• زهرة: وهي زوجة ابراهيم السكير، حيث أبرز الكاتب من خلالها مدى أصالة المرأة الجزائرية فزهرة ظلت تحترم زوجها رغم طلاقها منه بسبب سكره وعادت له بعد توبته وحجه ومعروف على مالك بن نبي تعظيمه لمكانة المرأة في المجتمع حيث يعتبرها من الدعائم الأساسية للأمة.
• الطفل هادي: الذي رغم صغر سنه وظرفه الاجتماعي الصعب من جهة ومن جهة أخرى أنه لا يعي جيدا معنى وأهمية الحج، تحدى ظروفه وذهب للحج رغم كل ما كابده قبل وأثناء الرحلة وهذا يجسد ايمان مالك بن نبي في الجيل الناشئ الذي يعول عليه مفكرنا في بناء الحضارة التي يعتبرها أساس كل عمل نهضوي وهذا ما يظهر في العديد من كتبه الفكرية الأخرى.
الحجاح يصلون متجهين نحو الكعبة الشريفة أثناء أدائهم لمناسك الحج
تبدأ الرواية بحلم رآه ابراهيم السكير في منامه، حيث كان في الكعبة ورأى نفسه بلباس الإحرام وهو اللباس الذي يرتديه الحاج خلال أدائه لمناسك الحج وظل مغزى هذا الحلم يشغله ما زرع فيه الرغبة في الحج وأيقظ فيه ما تربى عليه من مبادئ وعقائد وجعله يكرر شريط ذكرياته وأخطاءه منذ ما تربى عليه مع والديه إلى وفاتهم.
تسبب شرب الخمر وما نتج عنه من سلوكيات منحرفة إلى طرد ابراهيم من البيت، بعدما طلبت منه زوجته الطلاق ولم يتقبل الجيران فكرة وجود شاب أعزب منحرف بينهم، أين تدخل العم محمد ليضع حد لعربداته وهذا إكراما لجيرانه الشرفاء.
لم يترك العم محمد ابراهيم بدون احتواء وشغل ومأوى ولما علم برغبته الصادقة في التوبة أعانه على الحج فرغم كل ما فعله أكرمه الأهل إكرام الحجاج وعاد وتزوج زهرة.
لباس الإحرام الذي يرتديه الحاج أثناء أدائه لمناسك الحج
قراءة في رواية لبيك حج الفقراء
أراد مالك بن نبي من خلال رواية لبيك حج الفقراء ايصال الرسائل التالية للاستعمار الفرنسي:
• تبيين عمق الروح الجزائرية وشخصيتها المنتمية إلى تراث الثقافة والحضارة الاسلامية.
• تبيين أن الجزائري ليس أوروبي مهما اختلط بالمجتمع الأوروبي الذي فرض على الجزائريين نتيجة الاستعمار، لأن روحه عبقة بثقافة المجتمع الجزائري وبمقوماته الحضارية المتشبعة بالدين الاسلامي ولا خوف على شعب مثل هذا وأن الجزائريين مازالوا يعيشون بعفوية روحهم وأصالتها وهذا فعل مقاوم للاستعمار في حد ذاته، كما يقول عمر مسقاوي تلميذ مالك بن نبي في تقديمه للرواية: “قصة لبيك رسمت عمق الروح الجزائرية وشخصيتها المنتمية إلى تراث الثقافة والحضارة الاسلامية المنشدة إلى منازل الوحي”.
• أراد مالك بن نبي من خلال رواية لبيك حج الفقراء توصيل رسالة مفادها أن الشعب الجزائري لديه قيم راسخة تمنعه من الاندثار والانحلال في المشروع التغريبي الفرنسي الذي يعول في مشروع انتصاره على الجزائر على طمس هذه الهوية، لكن هيهات لأن هناك رجال صدقوا الله وعده متمسكين بأصالتهم التي أورثوها للأجيال بطرقهم الخاصة مجتمع داخل مجتمع يتجانبان لكن لا ينصهران بأحكامه وعاداته وتقاليده وتكريمه ونبذه كما حدث مع ابراهيم وجيرانه وزوجته.
• يعتبر مالك بن نبي أن الدين هو “قوة المركز” التي تشد المجتمع عن الضلال، حيث غرس هذا الدين في روحهم وبدى جليا في سلوك حتى أطفالهم، مثلما حدث مع الطفل هادي الذي تحدى الجميع ظروفا وأشخاصا ليحج لبيت الله “للفرح بالغفران” كما أطلق عليه مالك بن نبي.
• التأكيد على أن الدين الاسلامي دين حوار وتقبل للآخر على اختلافاته العرقية، الدينية واللغوية وبين هذا في الرواية من خلال فكرة التعايش في الحوار بين الربان والحجاج.
رواية لبيك حج الفقراء هي رواية صغيرة حجما، بسيطة تحمل فكرا عميقا غارقة في الروحانية من خلال إظهار مدى تمسك الشعب الجزائري بالأصالة والتدين مستخدما الحج الذي هو رمز من رموز تمسك العبد بدينه ورغبته في التقرب من الله وعموما لم يكن مالك بن نبي منشغلا بمسألة الهوية بقدر انشغاله بالبحث عن شروط بناء الحضارة ولكنه في رواية لبيك حج الفقراء تطرق إلى مسألة التشبع بالهوية وكيف يكون حاميا ومنجيا للشخصية ومكوناتها.


قد يهمك:

عن الكاتب:
اترك رد