رجال في صالون مى زيادة

عكس نساء مصر وقتها كانت مى زيادة مثقفة، متحررة، تهافت على صالونها الشهير أغلب أدباء ومفكرى عصرها..

بالأضافة إلى لطفى السيد، شبلى شميل، يعقوب صروف، طه حسين، حصد الشاعر خليل مطران النصيب الأكبر من عدد الساعات جلوسا في الصالون عن جدارة..

تردد أسماعيل صبرى وولى الدين يكن على صالونها سويا، غرم بها الأول رغما عن كهولته، لكنها احبت ولى الدين يكن الذى اتشحت بالسواد طوال عامين كاملين حزنا على وفاته..

لم يخجل أحمد شوقى في اطلاق شعرا فيها قائلا: «إذا نطقت صبا عقلي إليها وإن بسمت إليَّ صبا جناني»..

عكس انطوان الجميل الذى أحبها في صمت وعنف وكبرياء، اندفع مصطفى صادق الرافعى في حبها علنا..

ترك مصطفى صادق الرافعى الذى اشتهر وقتها بمعارك أدبية مع العقاد وطه حسين، استعمل فيها الفاظ وعبارات لم ترد في تاريخ الأدب العربى، عمله موظفا في محكمة طنطا كل يوم ثلاثاء ليهرع الى صالون مى في القاهرة، كان يعود إلى عمله الأربعاء قبل أن يعود مرة أخرى ليقضى الخميس والجمعة في صحبة مى بالقاهرة..

كان الموعد الأسبوعى للصالون الثلاثاء، يحضر رواده بذقن حليقة في أفخم الملابس وأرقى العطور، بينما يدلف العقاد مباشرة إلى هناك حاملا غبار الطريق من طنطا إلى القاهرة لينظم شعرا في مى التى يظن انها تبادله مشاعره فيثير سخرية رواد الصالون التى لا يسمعها لأنه أصم..

احب العقاد في حياته اثنان، سارة وهو اسم مستعار اطلقه عليها في قصته المعروفة بنفس الاسم وأخرى قبلها بزمن، هى مى زيادة، الاديبة التى تعرف عليها من مقالاتها في الصحف والكتب ثم عن قرب في صالونها الأدبى..

كان في السابعة والعشرين من عمره بينما كانت هى في الحادية والعشرين..

سافر العقاد إلى أسوان أثر مرض انتابه فجاءت رسالة سؤال عن صحته بعثت بها مى زيادة رد عليها هو برسالة يطمئنها تلو الأخرى لينفتح باب الرسائل بين الطرفين على مصراعيه..

فى صيف ١٩٢٥ بينما العقاد منشغل بمعارك الوفد السياسية، كان الخلاف على أشده بين سعد باشا زغلول وخصوم الوفد الذى كان على رأسهم عدلى يكن وعبد الخالق ثروت وإسماعيل صدقى، هبطت رسالة على العقاد في مكتبه من مى بعد فترة انقطاع جفت فيها الرسائل بين الطرفين، تصف له فيها رحلتها إلى روما..

ضمن الرسالة حرك نشيد عاطفى رقيق من مى الشوق في نفس العقاد إليها فرد عليها بأبيات شعر تعبر عن شعور متبادل..

من روما أنتقلت مى إلى برلين حيث أتى ردها من هناك مباشرا برسالة حب وهيام صريح..

توطدت العلاقة من صداقة أدبية إلى حب، وبدأت الغيرة، شعرت بها مى في نفس العقاد من تقديرها لجبران خليل جبران وثنائها عليه في مقالاتها قبل أن يعبر هو عنها صراحة من وجود مصطفى صادق الرافعى في صالونها..

ثم انتقلت الغيرة من العقاد لتصبح هذه المرة من نصيب مى، أتصلت به ذات مرة بعد أن عاد من لبنان لتهنئه بسلامة الوصول فكان الرد في لحظة أنشغال من العقاد، صوت أنثوى أيقظ الشك في نفسها..

لم يكن الصوت سوى سارة، احبها العقاد بعد فترة من علاقته بمى، لم تكن مى تعلم شيئا عن سارة حتى هذه اللحظة عكس الأخيرة التى حاولت أن تشغله بشتى الطرق عن مى لتستأثر به وحدها..

غضبت مى فترة من الزمن، أمتنعت عن محادثة العقاد في التليفون فأرسل إليها منظومة بعنوان وساوس الهجر، لم ترد عليها برسالة أنما بزيارة مفاجئة بعد فترة عندما دخلت عليه مكتبه في جريدة البلاغ حين غرة..

وكانت تلك الزيارة الأخيرة، أنتهت علاقتها بالعقاد لكنه لم يكن الأخير..

أحبت جبران خليل جبران وأحبها دون أن يرى أحدهما الأخر، هو عاش في أمريكا طوال حياته وهى لم تطأها أبدا بقدمها..

بدأت علاقتهما عن طريق الكتابة والنقد ثم أنتقلت إلى رسائل متبادلة..

من صداقة إلى حب، تطورت العلاقة إلى عرض زواج لم يكتمل، هى وحيدة لأب من لبنان وأم فلسطينية لا تستطيع ترك كلاهما يعانى الشيخوخة في مصر للزواج في أمريكا..

ظل جبران خليل جبران من عام ١٩٢١ إلى عام ١٩٣١ يعانى المرض والحب من مى حتى مات قبل أن يموت والد مى ووالدتها أيضاً لتجد نفسها وحيدة في مواجهة الديانة والطامعين..

فى رحلة إلى ايطاليا قبيل الحرب العالمية الثانية زارت خلالها البابا، تفوهت هناك مى بما أغضب الحكومة الأيطالية، لم يستغرق الأمر وقتا طويلا حتى أخبرها صديق لها بغضب حكومة الدوتشى التى لم تعد ترحب بوجودها فغادرت أيطاليا على وجه السرعة ليتملكها بمجرد وصولها مصر شعور حاد بالأضطهاد وأن هناك من سيقتلها بتحريض من الدوتشى عن طريق الجالية الأيطالية في مصر..

طردت مى السفرجى والطاهى وفتاة المنزل وأحضرت جهازا لتحليل ما تتناوله من طعام..

وصل شعرها بالأضطهاد لأغلاق باب المنزل في وجه أنطون الجميل وخليل مطران الذى اصطحبا إحدى قريباتها من أجل زيارتها للأطمئنان عليها، صرخت في وجههم 《أيها القتلة ماذا تريدون؟》، فتسمر كل منهم مكانه..

اقنعها قريب لها بالسفر إلى لبنان وهناك أودعها مستشفى الأمراض العقلية، اختلفت الروايا ما بين انها كانت مريضة أو انها نؤامرة للأستلاء على اموالها، المؤكد أن شهرتها لعبت دورا في احداث ضجة لم تهدأ حتى حتى أخرجها البوليس بالقوة من المستشفى في موكب من اصدقائها ومحبينها..

عادت مى زيادة إلى مصر، وهناك عانت الوحدة والأكتئاب حتى رحلت قهراً ويأساً، ماتت وحيدة بلا قريب أو صديق ليودع نعشها نفر قليل..

بعد وفاة مى ببضعة أسابيع وجد أقاربها مئات الرسائل، عشرة منها بعثها أصدقاء أجانب بالفرنسية والألمانية وألأيطالية والأنجليزية، أما الباقى فكان بالعربية، ذيلها توقيع أشهر أدباء الوطن العربى..

فحص تلك الرسائل أنطوان جميل وخليل مطران وأعداها للنشر وسط سؤال حائر..

هل تنشر كما هى من باب أمانة النشر دون حذف حرف واحد، أم حذف ما يسئ إلى أصحابها ؟..

فى النهاية لم تنشر الرسائل التى ابتلعها طى النسيان..

المصادر:

– كتاب (الذين احبوا مى) للكاتب كامل الشناوى

 – كتاب (اطياف من حياة مى) للكاتب طاهر الطناحى


قد يهمك:

عن الكاتب:
اترك رد