على مدار أكثر من 40 عامًا، لم تكن مصر غافلة عن التحديات التي تواجهها، خاصة فيما يتعلق بالمياه والطاقة. وبينما يرى البعض أن المشروعات القومية الكبرى التي تنفذها الدولة اليوم جاءت دون تخطيط أو في غير وقتها، فإن الحقيقة تكشف أن هذه المشروعات هي جزء من خطة استراتيجية لمواجهة الأزمات المحتملة مستقبلاً، وعلى رأسها تأثيرات سد النهضة الإثيوبي والتغيرات المناخية.

التحدي الأكبر: سد النهضة وسيناريو الانهيار
سد النهضة، الذي كان في الأساس مشروعًا صغيرًا لتوليد الكهرباء، شهد تحولات كبيرة بعد تدخل جهات دولية، مما أدى إلى توسيعه ليصبح أحد أكبر السدود في العالم من حيث تخزين المياه. ورغم ذلك، فإن هناك تساؤلات كثيرة حول قدرة السد على تحمل الضغط الهائل من المياه والطمي، خاصة في ظل التغيرات المناخية.
انهيار السد، في حال حدوثه، سيمثل كارثة كبرى تمتد من الخرطوم إلى السد العالي، ومن ثم إلى مدن وادي النيل والدلتا، مما قد يؤدي إلى فيضانات مدمرة وانقطاع تام للكهرباء، وهو سيناريو تدركه القيادة المصرية جيدًا، ولذلك بدأت الاستعداد له منذ عقود.
المواجهة المصرية: مشروعات قومية غير مسبوقة
لم تكن مصر تنتظر وقوع الأزمة للتحرك، بل بدأت منذ أكثر من 40 عامًا في تنفيذ مشروعات استراتيجية تهدف إلى تقليل المخاطر وتأمين موارد المياه والطاقة. ومن بين هذه المشروعات:
- مفيض توشكى: مشروع ضخم لتصريف المياه الزائدة من خلف السد العالي، حيث يمكنه استيعاب 600 مليار متر مكعب من مياه الفيضانات، مما يخفف الضغط عن السد العالي.
- قناطر أسيوط الجديدة وسحارات سرابيوم وأنفاق قناة السويس للمياه وترعة السلام: شبكة متكاملة تتيح إعادة توزيع المياه وتوجيهها إلى المناطق التي تحتاجها، خاصة سيناء، التي يتم تحويلها إلى واحة زراعية جديدة ضمن خطة الدولة للأمن الغذائي.
- محطات الكهرباء العملاقة: مصر قامت بشراء محطات كهرباء عملاقة وتوزيعها في أنحاء الجمهورية، وهو ما جعلها قادرة على تشغيل البلاد بالكامل دون الاعتماد على السد العالي، كما حدث بالفعل في تجربة استمرت لشهرين.
- المفاعلات النووية في الضبعة ومحطات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح: لضمان توفير الكهرباء حتى في حال توقف أي من المصادر الأخرى، مما يجعل مصر من الدول القليلة التي تمتلك تنوعًا في مصادر الطاقة.
لماذا الآن؟
قد يتساءل البعض: إذا كانت هناك أزمة مياه متوقعة، فلماذا تستثمر مصر مليارات الجنيهات في مشروعات مرتبطة بالمياه؟ الإجابة ببساطة أن القيادة السياسية تدرك خطورة الوضع، وتعمل على تحويل التحديات إلى فرص. فبدلًا من أن تكون الفيضانات المحتملة كارثة، يتم الاستعداد لاستغلالها في استصلاح الأراضي وزيادة الإنتاج الزراعي.
الرئيس عبد الفتاح السيسي كرر مرارًا عبارة: “الوقت ليس في صالحنا، ونحن متأخرون جدًا في العمل”، وهو ما يعكس إدراك الدولة لحجم التحديات التي تواجهها، وضرورة العمل بسرعة لتنفيذ المشروعات التي تضمن استقرار مصر وأمنها المائي والغذائي.
الخلاصة
ما يجري من مفاوضات حول سد النهضة قد يكون جزءًا من لعبة سياسية ومساومات دولية، لكن الحقيقة الثابتة هي أن مصر تستعد لمختلف السيناريوهات. فالمشروعات القومية، من شبكات المياه إلى مشروعات الطاقة والبنية التحتية، ليست مجرد استثمارات آنية، بل هي صمام الأمان لمستقبل البلاد في مواجهة تحديات المياه والطاقة.
وبينما قد يبدو الوضع الحالي صعبًا، فإن البديل كان سيكون كارثيًا. لذا، فإن الرؤية الاستراتيجية لمصر ليست مجرد رد فعل، بل هي استعداد محسوب لضمان حياة مستقرة وآمنة للأجيال القادمة.