قراءة تحليلية في القصة التي نال بسببها الأستاذ الصحفي ناصر رمضان شهرة واسعة في الوسط الأدبي

 

إستمتعوا مرة أخرى لمن قرأها من قبل، ولمن لم يقرأها هذه درة عليك بمطالعتها.

في السابعة صباح أحد أيام أكتوبر، استيقظ أدهم لآخر مرة في حياته…
وقف أمام المرآة يلقي نظرة أخيرة على هيئته، عندما لاحظ نفسه يبتسم،
“منذ متى نبتسم في الصباح يا أدهم؟”.
تساءل متعجبًا يبحث عن سبب.
هل لأن اليوم هو الخميس؟ وهذا يعني سهرة قد تطول للفجر مع الأصدقاء،
يبهجه الخميس منذ كان طفلًا.
أو ربما السبب يكون نجاحه في مغادرة الفراش مع رنة المنبه الأولى، وهو الذي اقتنع منذ زمن أن اللحظات الأولى في يومه ما بين استيقاظه إلى أن يغادر الفراش هي الحرب الأصعب على الإطلاق؛ ففي كل صباح يفتح عينيه ويظل راقدًا مسلوب الإرادة والتساؤلات الصباحية عن جدوى ما يفعله تدوي داخله.
أنهى الروتين الصباحي من اغتسال، صلاة، اختيار ملابس تناسب حالته المزاجية سريعًا. وخرج إلى الشارع واضعًا سماعة الهاتف في أذنيه، ليأخذ جرعة أمل من صوت حمزة نمرة وهو يطربه:
«قولنا صباح الخير وعلى الله تبقى الدنيا رايقة..
وده مين ده اللي يضايقنا ولا يعكر مزاجنا
لا أنسى أنسى أنسى».
في الشارع الجانبي الملاصق لمبنى المحكمة، كانت تنتظره عربة الكبدة التي تنتهي عندها طقوسه الصباحية.
لا بدّ من شطيرتي كبدة، كما لا بدّ من صوت حمزة نمرة الصباحي قبل أن يدخل من باب المحكمة؛ يشعر بأنه لو فوّت طقسًا واحدًا سيختل توازنه، أو أن اليوم سيتعطل كماكينة نسي أن يشحنها بالكهرباء فتوقفت.
سمع العم فاروق يقول لأحد زبائنه: “تبا لك”، فابتسم.
وكان العم فاروق سريع التأقلم في أي عمل أو مكان جديد يذهب إليه. يكسب الجميع بسهولة من خلال ابتسامته الودود وردوده اللطيفة غير المتوقعة.
أكبر مشكلة واجهت العم فاروق عندما انتقل بعربة الكبدة التي يملكها لمكانه الجديد بجوار المحكمة هي كلمة “أحا” التي تنطلق منه بلا وعي ولا قصد طوال اليوم.
في البدء، كان يلتزم الصمت خوفًا أن تخرج منه الكلمة البذيئة في حضرة مستشار أو قاض أو أحد كبار المحامين. هو الذي اعتاد أن يتعامل مع زبائن القهوة القديمة وأغلبهم صنايعية.. الخطأ معهم أمره هيّن.
انفك خرس العم فاروق يومًا عندما سمع أحد المحامين يقول لزميله ضاحكًا:
تبًا لك.
لم يفهم معناها، لكنه أجراها على لسانه فشعر وكأنها بصقة يبصقها في وجه أحدهم، خاصة مع حرف الباء. جربها مرات على لسانه فوجدها أكثر راحة من اللفظ القديم؛ فكان يقولها طوال الوقت في الجد والهزل حتى اشتهر بها وسط المحامين وأمناء الشرطة.

بعد أن بصقها في وجه أحدهم، التفت ليجد أدهم واقفًا مبتسمًا ينتظر إفطاره المعتاد.
جهز له الشطيرتين.
وعاد ليكمل صنع العشرين شطيرة للأمين “خلف” كي يأخذهم للمتهمين.
أنهى أدهم الشطيرتين. ومع صوت حمزة المنبعث من سماعة الهاتف، انفتحت نفسه أكثر. وعلى غير عادته مد يده يتناول شطيرة ثالثة، سحب واحدة من أمام المعلم. وضع أمامه حساب الثلاث شطائر ثم اتجه لباب المحكمة حيث تنتظره القضية الملعونة. للحظة، شعر بغرابة طعم الشطيرة الأخيرة.
صعد الأدوار الاربعة التي تفصله عن قاعة المحاكمة على مهل سارحًا في تفاصيل القضية ذات الطابع السياسي التي يخشاها سواء ربحها أو خسرها.
رجل من بلدته معروف عنه انحيازه الدائم للنظام، أي نظام.
حتى لو كان النظام هذا يمثله موظف الحي الذي يمر كل فترة يبتز أصحاب المحلات، كان هو الوحيد الذي يعامله باحترام وتوقير،
«ما دام يمثل النظام فلهم علينا حق الطاعة ولو ظلمونا».
كانت هذه فلسفته التي يدافع بها عن نفسه عندما ينتقده أحدهم.
كان خبر القبض عليه بتهمة الانضمام لجماعة إرهابية غير معقول. وعندما أتت امرأة الرجل لمكتب أدهم لم يكن أمامه إلا القبول لإيمانه ببراءته.
وقف على باب القاعة لحظات يقرأ فاتحة الكتاب ويتلو بعض الأدعية ودخل ليرى ما لم تصدقه عيناه:
القاضي على المنصة وبجواره مستشاريه يرتدون الطرابيش، فوقهم الميزان رمز العدالة.
على يسار المنصة نافذة بعرض نصف متر وترتفع للسقف.
السيد وكيل النيابة كان واقفًا وهو أيضًا يرتدي طربوشًا، وكان يكمل خطبة عصماء بلغة عربية سليمة.
لون القاعة الذي يعرفه بني اللون.. أما اليوم فهو أسود باهت.
بنظرة مدققة في أرجاء القاعة، وجد كل شيء بالأبيض والأسود. كأنه انتقل لمشهد في فيلم عربي من الخمسينات.
أشار له القاضي أن يجلس مكانه فجلس متوترًا وعيناه تبحث هنا وهناك علّه يجد كاميرات التصوير ومخرج وفنيين فلم يجد.
عاد ببصره لباب القاعة يتأكد من أنه لم يخطئ القاعة فلمح الرقم النحاسي على الباب يخبره ألا خطأ هناك.
انتبه على صوت وكيل النيابة المرتفع، حوّل نظره إليه وهو يشعر بشيء غريب.
السيد وكيل النيابة فمه مغلق ومع ذلك كان كلامه واضحًا.
دقق أكثر فرأى فتحة شرج السيد تنبسط وتنقبض والكلام يخرج منها.
رأى الانقباض والانبساط من خلال بنطاله الذي تحول بصورة ما لستار شفاف.
نظر للقاضي مرتبكًا. رفع يده حتى يسمح له بالكلام.
كان يريد أن يقول إن هذا لا يليق.
لا يصح أن يتكلم أحد من مؤخرته، خاصة في مكان مقدس كهذا.
نهره القاضي بنظرة صارمة كي ينزل يده ولا يقاطع السيد ممثل الادعاء.
اختلجت شفتاه مع شاربه الخفيف كما يحدث دائمًا كلما شعر بالتوتر مع عرق غزير انسال على جبينه وهو يسمع ويرى تلك العجائب عندما رأى مديحة كامل بنفسها خارج النافذة.
كان حلم عمره أن يتزوج فتاة تشبه مديحة كامل.
وجد الفنانة تقف خارج النافذة على الهواء، ومن ظهرها لمح جناحين ذهبيين يرفرفان، وبيدها تشير له أن يقترب.
قام متوجهًا ناحيتها غير مصدق ما يراه.
وصل عند النافذة، ابتسمت له ومدت يدها، أمسكها وصعد وهو يسمع همهمة من خلفه. اتسعت ابتسامتها وهي تقول له:
انتظرك منذ زمن. هيا معي.
خطا بقدمه خارج النافذة وقلبه يكاد يتوقف من الفرحة
========

أطلق العم فاروق سبة بذيئة في وجه امرأته لتبتعد عن شاشة التلفاز.
ظل يتابع برنامجًا على قناة مصرية تتكلم عن المحامي الوطني الذي انتحر اليوم ندمًا على توليه قضية أحد الخونة.
تحوّل لقناة أخرى غير مصرية تتكلم أيضًا عن نفس المحامي البطل الذي رأى الظلم بعينيه ولم يتحمله فانتحر.
انتبه على صورة شيخ معمم على الشاشة فسمعه يقول إن المحامي الشاب نحتسبه شهيدًا لأنه قاوم

شهيدًا لأنه قاوم الظلم حتى لو طريقة المقاومة غير سليمة.
سرح العم فاروق في بداية هذا اليوم العجيب ووفاة الشاب الذي كان يحبه لهدوئه وأدبه.
استرجع ذكرياته القليلة معه.
قطعت عليه زوجته ذكرياته وهي تسأله عن مصروف اليوم ولماذا هو أقل من المعتاد.
فعاد يسبها ويسب الشاويش “خلف” الذي غالطه في حساب شطائر اليوم بحجة أنها تسع عشرة شطيرة فقط وليس عشرون.
كان واثقا أن خلف “ابن كلب ياكل مال النبي” كما يصفه دائمًا.
فهو لا يكتفي بنسبته المعتادة من ثمن الشطائر التي يحشوها بالمخدر ويبيعها للسجناء، ولكنه أيضًا يغالطه في عددها، لدرجة جعلت العم فاروق يفكر جديًا في التوقف عن نشاطه هذا. رغم مكاسبه الكبيرة اليومية.
مرت زوجته برفق بجواره بعد أن لاحظت تعكر مزاجه فسمعته يكرر كلمة “احا” ولم تفهم ما به.

قبل أن أقول شيئا بخصوص القصة، هنالك سؤال يتبادر بذهنك الآن وهو (هل انتحر أدهم أم كان حادثا أثناء النوم؟).
إجابة هذا السؤال صعبة جداً حسب الأدلة التي تركها الكاتب، ونحتاج لتفسير حلم أدهم أولا، قبل ذلك، لنفهم وجهة نظر الكاتب.

أولا، حديث وكيل النيابة من أسفله، يدل على الاتهامات الباطلة الموجهة نحو موكل البطل أدهم، وصرامة القاضي نحوه وأمره بعدم المقاطعة يثبت بما لا يدع للشك أنها محاكمة صورية، وأن هنالك يد وراء الحكم بالتخوين على المتهم.

طبعا مشهد المحاكمة هذا كان عبارة عن مشهد مكرر في حلم أدهم عن المشهد الاساسي في المحكمة، والذي انتهى بخسارته القضية والحكم على موكله بالخيانة.

هنالك أيضا إسقاط آخر، وهو حول الشاويش خلف الذي يسرق من العم فاروق، والقصد هنا أن النظام عامة فاسد، وليس بسبب سرقة الشاويش خلف لشطيرة واحدة، ولكن بسبب تهريبه للمخدرات في الشطائر، وهذا ان دل إنما يدل على الإهمال الذي يسود المنظومة العدلية عامة والشرطة.
وهذا سبب كافي يدفعني للإعتقاد بأن المتهم كان مظلوما رغم موالاته النظام.

نأتي للجانب الثاني، وهو هل مات أدهم منتحرا أم حادثا أثناء نومه؟

الإجابة هي (لا كان حادثا).

أولا وقبل كل شيء، لا ينتحر من كان يداوم على صلاته وفروضه.
والسبب الثاني هو أنه شخص محب للحياة، له أحلامه بالزواج من فتاة تشبه مديحة كامل، وأيضا لا يفوت فرصة للإستمتاع بوقته بأجمل نعمة قد يحصل عليها الإنسان خارج علاقات الرحم، وهي الصداقة.
ربما هذه أسباب قد تسقط حيال إحساسه بظلم موكله، لكنه يكره النظام مثل باقي سكان بلدته، وموكله وحده من كان يعامل النظام بالاحترام والتقدير.
وجميعنا نعرف أن القانونيين الذين يكرهون النظام، هم أكثرهم سعيا لمناهضة ظلمه بالطرق القانونية وليس بالجبن والانتحار.
ولكن السبب الأهم من وجهة نظري الضعيفة، أن خسارة قضية ليس دافعا للإنتحار، وهو أيضا لا يرتبط به في علاقة رحم أو حتى صداقة وربما يلومه قليلا لإحترامه هكذا نظام.

وبالتالي أعتقد أن محامي، يتقي ربه، يؤمن بمساعدة المظلومين والدفاع عن الأبرياء حتى ضد نظام قاسي ديكتاتوري فاسد، وأيضا شخص يحب الحياة له أحلامه التي يسعى ورائها لا ينتحر.

وأنتظر إجابة العم ناصر رمضان على السؤال إن لم تكن الخاتمة متروكة مفتوحه كي يعثر كل قارئ على إجابته.

لكن عموما القصة مليئة بالعشرات من الاسئلة والإسقاطات التي يصعب استنتاجها بسهولة.

عموما، (الشاويش خلف) أنا تخيلته (خالد صالح) في دور أمين شرطة في فيلم (هي فوضى).

بعد قراءتك القصة أخبرنا عن اعتقادك الأول حول وفاة أدهم انتحار كان أو حادث؟


قد يهمك:

عن الكاتب:
اترك رد