«إبراهيم فايد» يكتب: رثاء أُم

أيَا أُمَّ قَلْبي ورَبَّةَ فُؤادي وواهِبَتي الحَياةَ أشْتاقُكِ، أفتقِدُ رُؤياكِ أَتَفَقَّدُ صُحُباكِ وطِيبَ مَحياكِ يا وَلِيَّةَ نَعَماتي وبابي إلىٰ رِحابِ الجِنانِ ومَلَكوتِ النَّعْماءِ جَميعُها، أُمَّاهُ لَبَّيْكِ وسَعْدَيْكِ يا أُمَّ الخَيْرِ يا جَميلَةَ الجَميلاتِ يا حُلْوَةَ الدُّنْيا وحُلْواها التِّي استعسَلْتُ بِها أَمْسي فاستَعْصَتْ علىٰ يَوْمي وغَدي، لَم أَنْسَكِ بُرْهَةً يا أُمِّي.

 

أَذكُرُكِ كُلَّ يَوْمٍ مُذ غادَرْتيني، بَل غادَرَني جَسَدُكِ، وبَقِيَتْ رَوْحُكِ كَعادَتِها تعبَثُ هُنا وهُناكَ فتَبْعَثَ بيَ السَّكينَةَ وتَبُثَّ ليَ الوِئام، شاراتُ أنامِلِكِ أراها تأمُرُني تَنْهاني تُوَجِّهُني تُنَبِّهُني تُوَدِّعُني وقْتَ خُروجي وتُعانِقُني عِندَ الإياب، أتَسَمَّعُ هَمَساتِكِ تُحابِيني تُحاجِيني تُناجِيني، أستَشْعِرُ لمَساتِكِ تُداعِبُ خُصُلاتي تُصَفِّفُها، تُنَظِّمُ خَزانَتي، تُهاديني كُوبَ حَليبٍ قَبْلَ مَنامي، تُهَدْهِدُ وَچَنَتَيَّ وتُدَغْدِغُ ضَفيرَتَيَّ في الصَّبَاح.

 

أُمِّي، أَذْكُرُكِ كُلَّ لَيالِيَّ، لَم أنسَكِ يَوْمًا لا نَوْمًا ولا حُلْمًا، أَعُودُكِ فَتَعُودِيني فَأُهامِسُكِ فَتُواسيني، ولِسانُ حالِكِ يُنادِيني: «طِفلَتي، صَغيرَتي، بَسَمَتي لِلْوُجودِ، نِسْمَتي لِلْحَياة، رَسْمَتي لِلْبَشَرِيَّةِ أنْتِ.. أنْتِ إرْثيَ التَّلِيدُ لِذاكَ العالَمِ البَليد، مَنَحْتُكِ الخَلْقَ والخُلُقَ، نَقَشْتُ بِكِ تَرانيمَ تَربِيَتي، وعزَفْتُ فيكِ تَراتيلَ طُمُوحي، المِسْكَ والطِّيبَ لِقَلبِكِ أهدَيْتُهُ؛ لِتَبْقَىٰ نَسَماتُ عِطري في البَرِيَّةِ فَوَّاحَةً ما دامَتْ نَبَضاتُكِ علىٰ قَيْدِ الحَياة».

 

ماما، يا عَمُودَ الدَّارِ رُغْمِ رِقَّتُكِ، غادَرْتِ ولم تُغادِرْ طُقوسَ ذِكْراكِ؛ ما زالَتْ الشُّرفَةُ تَشْتاقُ مَجْلِسَكِ كُلَّ صَبَاحٍ، والمَوْقِدُ يَئِنُّ فِراقَ ضَجيجِ أَوانِيكِ كُلَّ ظَهيرَةٍ، والتِّلْفازُ يَشْتاقُ ناظِرَيْكِ بِالمَساءِ، الجاراتُ حَيارَىٰ لِفِراقِكِ، وهذا مُحَصِّلُ الكَهْرُباءِ يَسْأَلُني عَنْكِ، وصانِعَةُ الكِيكِ وبائِعَةُ السَّمْنِ وسائِقُ الباصِ وأبي وأنا وسُلَّمُ العِمارَةِ وحارِسُها والشارِعُ والرَّصيفُ والهاتِفُ والنَّوافِذُ والسَّتائِرُ والكُلُّ هُنا يَشتاقُكِ آدَمِيًّا وجَمادًا؛ حَتَّىٰ “كيتي” قِطَّتُنا الشَّقْراءُ تَتَلَمَّسُ بِالأَرجاءِ جِوارَكِ، عِناقَكِ إيَّاها حِينًا وعَطفَكِ عَلَيْها أحيانًا وتَوابيخَكِ لَها أحايِينا؛ إذْ تُلَمْلِمين أشْعارَها بِفِراءِ السِّجَّادِ ومَفارِشَ الأَسِرَّةِ وأرائِكَ المَضِيف.

 

وَصاياكِ العَشْرُ لي أَحْفَظُها عَن ظهْرِ قَلْبٍ: «إخْوَتُكِ، أباكِ، صِلَةُ أرحامِكِ، دِراسَتُكِ، رَفيقاتُكِ، صَلاتُكِ، مَواعيدُ خُروجِكِ وَعَوْدَتِكِ، مَلبَسُكِ، مَطعَمُكِ».. والعاشِرَةُ وَصِيَّةٌ مُؤَجَّلَةٌ أَنْ «إذ حضَرَني وعْدُ الآخِرَةِ لا تَبْخَسيني صالِحَ دُعاكِ»، وها أنا ذا يا أُمِّي أُنَفِّذُها بِحذافيرِها في كُلِّ خَلَواتي وصَلَواتي، بَلُ لَرُبَّما أنْتِ كُلَّ صَلاتي؛ بِالفاتِحَةِ أَذْكُرُكِ لِرَبِّي وبِالرُّكوعِ والسُّجودِ والقِيامِ والجُلوسِ والتَّحايا والتَّسالِيمِ أنْتِ مُجْمَلُ حَديثي لِرَبِّي وجَميلُهِ، فارْقُدي بِسَلامٍ عَلَيْكِ طِيبُ الرِّضْوانِ وزَخَّاتُ الغُفْرانِ وكَرَمُ الرَّحْمٰنِ ولِرَوْحِكِ الطَّاهِرَةِ مِنِّي خَيْرُ الصَّلاةِ وأزْكَىٰ السَّلام.


قد يهمك:

عن الكاتب:
اترك رد