نساء كالجبال.. هَرِمن وما هَرِمت عطاياهن

في شوارع المنصورة عروس النيل كنت أستقل “سرفيس” -سيارة ميكروباص عامة- وإذ بحظي الوافر جعل السائق يتوقف عند شارع جانبي ما قبل محطتي بخطوات، فأنزل، فأجد سيدة عجوز وقد افترشت الرصيف على استحياء ومعها كارتونة وعليها بضع أو يزيد من عُلَب المناديل.. مشهد طبيعي اعتدناه في مصر مع سوء الأحوال الاقتصادية وانتشار التسول والتشرد وأطفال الشوارع وغيرها من الظواهر التي لم تكن يوما بهذا المدى؛ إلا بكثافة السكان وكثرة البهتان وغياب العدالة.

دعونا من هذا كله ولنستكمل قصتنا.. خطوت عدة خطوات إليها ولم تكن مثل باقي من نراهم ممن يفترشون الأرصفة ويعرضون وينادون ويتسولون وو.. لكنها ومن فرط حيائها قد وجَّهت وجهتها تلقاء حائط البرج الفخم -الذي يؤويها رصيفه- بحيث جعلت ظهرها للشارع !
– ومن سيراكي هكذا ياأماه أو يدري ماذا تقدمين أو تعرضين؟
> ياولدي إنما أردت ألا أبيع حيائي؛ فهو آخر ما قد أحافظ عليه.
حوار تَخَيُّلي  دار بذهني لأن الحياء هو السبب الوحيد لذلك لا سيَّما أن آشعة الشمس وحرارتها لم تكن حاضرة المشهد لنقول أنها من دفعت تلك السيدة العجوز التي تخطت الخامسة والستين من عمرها على انتهاج تلكم الطريقة.

فما كان مني إلا أن ذهبت إليها وكان بجوارها طفلين يتدارسان ويكتبان ما أملته عليهما مدرسة حساب الصف الرابع الابتدائي، يفترشان الأرض مع جدتهما العجوز، وفوق قطعة من الكرتون كذلك يتخذانها مكتبا لهما يحمل الكُرَّاس والأقلام ولُعَيْبَتين بلاستيكيتين باليتين لكليهما.
ما أن اقتربت قدماي منهما حتى سمعتها تقول: “يلا ياحمادة اكتب ياحبيبي علشان تبقى دكتور اد الدنيا.. وانت يامصطفي يلا علشان نروح هعمللك انهارده بتنجان مقلي هيعجبكم اوي”.

ماذا دهاكي سيدتي.. ما حالك وما قصتكي ومَن هما الطفلين وكيف تتفاخرين بباذنجان مقلي للحد الذي أصبح هو المكافأة التي يحصل عليها طفل !
على الفور تذكرت ذاك المشهد العابث لأب في أحد نوادي العاصمة قال لابنه ذا السبعة عشر عامًا والذي كان يبكي لأن الموتوسيكل خاصته لم يعد يعجبه.. وكذا الحصان الأسمر لم يعد يعجبه وأنه يريد تغيير كليهما، فكان رد الأب أن سأعطيك غداً مفتاح سيارة “على الزيرو” ولا تحزن يا “عمورة”.

تشتت عقلي ما بين انعدام العدالة وما بين عوالم الأرزاق وحِيَل البشر ومكر الله وو، ومنعت ذهني بقوة من أن يتطرق لأيدولوجيات وبرجوازيات وفلسفات وسياسات لا يتحملها الموقف؛ فقد كان إنسانيًا صَرِفا.. إنسانيا بحتًا.. إنسانيًا وفقط.

أخيرًا، أوصلتني قدماي الثقيلتان -بفعل مُخَيِّلتي- إلى جوار السيدة العجوز صاحبة البشرة البيضاء والعيون الرمادية والوجه الحسن الذي حَطَّت عليه الدنيا بأثقالها، حتى انحنى ظهرها بفعل السنين والهموم والضغوط والأزمات والزمان الذي أكل على عاتقها وشرب حد التخمة.
يالكي من أم مسكينة ما كانت لتلقى هكذا إلا في بلاد الـ.. ..، حبيبتي ماذا أقدم لكي؟
“أؤمر ياستاذ معايا مناديل وبسكوت”.. لالالا.. لا أريد سوى التمتع ببشاشة وجهك الصَبَّاح.. وأنتي بالقرب من مسجد الصَّبَّاحي بمنطقة حي الجامعة جوار القرية الأولمبية أرقى أحياء عروس النيل.. وتجلسين هنا لتلتقطي الفتات وعلى استحياء !
أخبريني ماذا تريدين.. هل بإمكاني تصوير.. فقاطعتني بصوت حاد: “لالا لو سمحت لو عاوز مناديل اتفضل لكن صور ومحافظ وجمعية خيرية والكلام ده سمعته كتير وزهقت وأوقات بيتحركوا يوم واتنين وبعد الكاميرا ماتروح مش بيشيلني ثاني غير الرصيف”

تركت لها مبلغا من المال على استحياء مقابل علبة مناديل.. فأصرَّت أن آخذ باقي المبلغ الذي كما قالت “ده تمن عشرين علبة ياستاذ استنى خد فلوسك”.. تركتها وسرت وفي ذهني والدتي أو أختي أو جدتي أو أنا حتى ذاك المسكين الضعيف الذي أفترش قارعة الطرق هكذا، ولم أستمع أو أنتبه لنداءاتها وغادرت إلى أن جاءني حفيدها مهرولا يتجاذب أطراف قميصي “الباقي ياعمو”.. وما إن قلت لا لا اعطه لجدتك حتى جاءني صوتها من على بعد أمتار: “لا يامصطفي اديهوله احنا ربنا بيكرمنا والحمدلله.. شكرا يابيه”.

موقف عابر قد يراه البعض مشهد سخيف يحدث ملايين المرات لكنه عميق عمق الأفق.. عميق ممتلئ بآهات وأوجاع وتضحيات لا يعلمها هوانم الزمالك ولا كريمات جاردن سيتي.. تضحيات لا تقل قدرا عما يقدمه أبطالنا على جبهات سيناء والواحات في شيء.. فهم يسعون لإأحياء نفوسًا.. وهي كذا في ذاك السن الطاعن تسعى لإحياء أحفادها اللذَيْن ماتت والدتهما بمرض السرطان.. وغادر والدهما منذ أربعة سنوات لا يعلمون عنه شيءًا -كما أخبرتني-.. تضحيات لا يصدقها أو يستوعبها من التففن بالفراء ومن قضين الساعات في النوادي والحفلات والسيارات الخاصة والفنادق والشاليهات.. لا يعلمها سيادة المحافظ الذي يجلس في جنبات مكتبه يستقبل إنجازات وكلاء الوزارات ورؤساء المراكز والقرى والأحياء عبر هاتفه الفخم الذي يشتري مئات الكراتين بمناديلها وبسكويتها وباذنجاناتها المقلية، التي هي كل ما تملكه تلك الأسرة البسيطة؟

لا أريد التَّشَعُّب في الأمر وإقحام السياسة -كما أوضحت- لكنها الدنيا الفانية التي استذأبت واستأسدت على قوارير مصر وهم كُثُر..

اللهم احفظ نسائنا وفتياتنا وارزقهن من يحنو ويهنو ويحفظ ويرعى ويحوي ويؤوي وكن لهن.. فما لمصرنا وأهلها سواك؛ في عالم لا تحركه سوى المصالح ولا يقتات فيه سوى علية القوم وذويهم.


قد يهمك:

عن الكاتب:
اترك رد