قصة قصيرة – الملاك

لم يدر محمود أن احلامه ستأخذ منحنى آخر بعيدا عن حياة اعتدال التي اختارها من بين حسان الحي لا لجمالها فحسب فلم تكن أجملهن، لكنها كان الأكثر رقة وتهذيبا، الأقدر على كسب احترام الجميع لماتتمتع به من صفات نادرة، فكانت الأجدر بالمكوث في قلب محمود دون سواها، حدثها ذات يوم عندما كان يشرب شاي المغرب مع أسرتها كعادته منذ سنوات بحكم التجاور في السكن منذ كانت في العاشرة من عمرها، بأنه سيحدث والدته في أمر خطبتها فهي من تتولى شئونهم بعد وفاة والدهم مخلفا لها مسئولية أسرة تتكون من ثلاثة أبناء وبنت واحدة استطاعت أن تصمد في وجه عاتيات الأيام كونها امرأة ثرية ورثت الكثير من الأموال عن والدها، كما أنها كانت قوية الشخصية وهذة اكتسبتها من زوجها الذي تزوجها وهي ابنة ثلاثة عشر ربيعا، فحفظ وصية والدها وكان المربي الثاني لها تعلمت منه اسرار التجارة وفنون التعامل مع المشكلات، والتوسط في تربية الأبناء بين اللين والغلظة فكأنه كان على موعد مع القدر، فأحسن إعدادها لتكمل واجبه في الحياة، فقامت به خير قيام – استطاعت أن تنشيء رجالا يكلل الاحترام هاماتهم، وتفوح سيرتهم العطرة في كل درب تخطو فيه اقدامهم، كانت سمتهم بر والدتهم ومحبتها والوفاء بالعهد، فكان محمود اكبرهم الأكثر تعلقا بها والأسرع لبرها لعلمه بما عانته من أجلهم، فكان مثال للتاجر الصدوق، وفاؤه انتقل معه ليشمل وعده لمحبوبته، فطارت نفسها فرحا، فأخيراً بعد سنوات الانتظار، سيقترن اسمها باسم من لاترى في الوجود رجل مثله.

الملاك

اعتدال

في الصباح كانت الكارثة تخيم فوق رأسه لتقلب حياته رأسا على عقب، اخبرته أمه بصوت صارم أنها خطبت له فاطمة ابنة أخيها منذ زمن وكانت تنتظر الوقت الملائم لاخباره، أحس بأن الأرض تتحرك تحت قدميه وهما لاتقويان على حمله، فتهاوى على اقرب مقعد أمامه، وحدق في المجهول، لم يك يسمع ماتقوله أمه كان يسمع صوتها بعيدا، وكذلك رأي صورة اعتدال تبتعد حتى تلاشت فتلاشى معها احتماله للموقف، فارتفع صوته وردد أنه قد اختار اعتدال ولن يبدلها بأخرى، كانت المرة الأولى منذ وعى على الدنيا يرتفع صوته في وجود من منحته الحياة، فكان ذلك سبب لأضافة المزيد لمعانأته، فخرج من المنزل، وكان يتمنى لحظتها لو يخرج من نفسه، استقر به المقام لدى صديقه ابراهيم اسبوعا كاملا، حزم خلالها أمره فقد قرر التخلي عن كل شيء ليفوز باعتدال، عاد في ذلك المساء ليخبر أهل محبوبته بأنه سيباشر موضوع زواجه بنفسه بسبب رفض أسرته، شرحا لهم كل الملابسات التي حدثت في الأيام الماضية في سبيل تغيير بوصلة حياته شطر منزل خاله، لكن هيهات!فاعتدال عنده بكل نساء الدنيا، وبكل ثروات أمه وخاله مجتمعة، لم ينطقوا بحرف فهو محبوب لديهم وموثوق به من قبلهم وكم تمنوه زوجا لابنتهم الوحيدة، وعدوه فقط بمداولة الأمر ومشاورة العائلة،
اقتناع الأسرة به مع تمسك اعتدال به كان يصب في مصلحته، إلا أن والدتها استطاعت أن تقلب الطاولة عليه فهي كما صرحت لن تتهور وتلقي بوحيدتها في وسط نيران الكراهية والمشاكل، فيوما ماسيندم محمود على انفصاله عن أسرته، فهو لم يعتد الا على الرفاهية ودلال والدته، اقنعت اعتدال بأن محمود لن يبتعد كثيرا عن والدته فهي مريضة منذ بارح البيت لينتصر لنفسه ووعده، أن لم يتركها اليوم سيتركها غدا، حن قلب اعتدال الرقيق لوالدة محمود فهي الأدري كم تحملت تلك الأم في سبيل أبنائها، كما اشفقت على محمود أن لايحتمل حياة الضنك فسارعت لاخباره أنها لن توافق به مالم تخطبها أمه وكانت على يقين أن ذلك مستحيل، وكانت تلك القشة التي قصمت ظهر علاقتهما، فأمه لن تتنازل عن ابنة أخيها فروابط الدم تجبرها على ذلك ومصالح التجارة تحتم عليها المضي قدما في إكمال هذا الزواج، لأول مرة يرى محمود نفسه مكبلا بقيود لايستطيع الفكاك منها، فشيع حبه وآثر أن يدفنه في صدره عندما هددته أمه بأنها ستطلب من أهل اعتدال إخلاء منزلها المؤجر لهم منذ خمسة عشرة سنة حتى صاروا أهل أكثر منهم مؤجرين، ضحى من أجل أن يكون لاعتدال مأوي يكفيها وأسرتها شر التشرد، أرادها أمام عينيه حتى ولو صارت بعيده عن حياته واحلامه.

كانت الاستعدادات للزواج تسير بسرعة، أشد ماكان يؤلمه أن اعتدال لم تنقطع عن منزلهم كانت تساعد في كل مهمة يطلب منها القيام بها، لم تك تدري أن القسوة قد بلغت مداها في القلوب، تأكدت عندما طلبت منها أمه أن تقوم بوضع الحناء لمحمود فهي الوحيدة التي تعيش وسط والديها هكذا تقول العادات والتقاليد، اقتربت في أبهي حلة من المكان المزين والمعد لحنة العريس، شعرت بالحزن لرؤية محمود وسط اصحابه، مظهره يدل على امتلاكه كل شيءالا الفرح، وضعت يده في يدها وحملت الحناء باليد الأخرى، فاضت عينيها بالدموع فتساقطت في يد محمود، واختلطت دموعهما التي كانت تنعي حبا قدر له الموت قبل أن يرى النور، بعدها اختفت اعتدال ولم يرها محمود حتى نهاية الحفل، همس لصديقتها نهى أن تلحق بها وتعود لطمئنته عليها.
كانت اعتدال تبكي حظها العاثر وفقرها المدقع، ووضع أسرتها المتواضع الذي اثقل كفة فاطمة ابنة الحسب والنسب فانتزعت منها محمود رغم رفضه.
أشرقت الشمس معلنة يوم الفراق فاليوم يزف محمود إلى عروسه مخلفا لها الذكريات، نفضت عن قلبها اي أثر للحزن قررت أن تتماسك حتى تسهل على محمود الفراق، ظلت تقوم بضيافة المدعوين طوال اليوم بلا كلل أو ملل، تبتسم في وجه محمود كلما التقت نظراتهما فأحتار من اي طينة خلقت هذة الفتاة التي تطاولت على الحزن حتى تقزم أمام شموخها وعزة نفسها.
كان مقرر لعقد القران أن يكون في الساعة  الخامسة، اقتربت الآن فهاهي الساعة الرابعة والنصف، كان القدر يقول كلمة أخرى، فوالدة محمود طلبت من خاله أن يقوم بالتنازل عن منزل الأسرة الكبير لصالح ابنها وابنته، باعتباره من الأشياء الملعقة في الميراث ولم يوجد لها حل، لكن أخاها رفض ففي رائه أنه يمتلك في المنزل مثل نصيبها مرتين ولايحق لها أن تطلب منه أن يتنازل لأحد عن املاكه، أشتد النقاش تدخل الأقربون لتقريب وجهات النظر، ولكن لاحياة لمن تنادي فكلاهما يحمل في رأسه دماغا أعند من أخيه، إضافة للغرور الذي كان صفة ملازمة لهذة الأسرة فالموت أهون من التنازل عن الرأي-اختلفا في كل شيء ولم يتفقا الا على ايقاف الزواج.
خرج الخال وأسرته يعلو وجوههم الغضب، وبقيت أم محمود لتخبر ضيوفها أن ابنها سيتزوج اليوم.
كانت الحيرة والاحراج هي مايتملك محمود، فهاهي الأحداث تقذفه يمنى ويسرى وهو ياخذ موقف المتفرج.
كانت عادته عندما تضيق به الحياة أن يلجأ، لمنزل اعتدال، فيجد اليد الحانية والكلمة الطيبة من الجميع، حملته اقدامه إلى هناك فوجد اعتدال تبكي بكاءا مرا، لقد توقع أن تكون الوحيدة السعيدة لالغاء العرس، تعجب منها عندما اخبرته أنها تدفع حياتها ثمنا لقاء أن لايحس بالخذلان وسط أصدقائه ومعارفه، حزم أمره، وصارحها أنه لن يدع الأحداث تأخده حيث شاءت بعد اليوم، وأنها أما أن تقبل بالزواج به اليوم أو تكون هذة آخر مرة تراه فيها لاهي ولا والدته.
وافقت ولم تدر كيف وافقت بدون اي تفكير لم يكن لها هم سوى أن تمنع غيابه عنها.
لم تجد الأم مناصا من الرضوخ للواقع ولم تغب شمس ذلك اليوم الا واعتدال زوجة لمحمود.

اكتملت أفراحهم بعد شهر فكانت ليلة خلدت في ذهن محمود واعتدال لسنوات، انتقلا للعيش في العاصمة، اتسعت رقعة أعمال محمود فصار من أعيان المدينة، كان يعيش حياة سعيدة مع اعتدال وأبنائها التؤام.
زار مدينته القديمة ذات يوم، أمضى فيها ثلاث أيام، عاد؛ لكن محملا بالحزن والمرض! كان كثير الصمت وزاهدا في الحياة، استحلفته اعتدال بأن يخبرها بسبب حزنه، مع اصرارها أخبرها أنه خلال زيارته لمدينته، قابل فاطمة ابنة خاله، كانت تعتلي أعلى درجات السلم الوظيفى، تمتلك المال والجاه، لكن تفتقر الأسرة الزوج والأولاد فلم يتقدم لها أحد منذ ذلك اليوم المشئوم في حياتها، فالكل بات يخاف أن تطاله لعنتها ويفشل زواجه في لحظاته الأخيرة.
ادركت اعتدال أن الحزن يأكل صدره، لأنه بلا ذنب منه ولا قرار تسبب في دمار حياة انسانة بريئة فرض عليها كما فرضت عليه.
اعتدال الانسانة لم تتبدل رغم مرور الزمن، حدثته كيف انها شريكته في كل شيءحتى في ذنب فاطمة، ترجته أن يتزوجها فهي لن تقبل أن ينال منه عذاب الضمير ويدمر حياته وحياتها.
استطاعت اقناعه بأنها ستكون متقبله للوضع بأعتباره نصيب، فالنصيب أخذه من بين يدي فاطمة وأعطاه لها بعد يئس، هاهو يرده لفاطمة لكن برضى كل الأطراف.
عاد محمود للحياة، يمنح السعادة لأسرة فرضها القلب وأخرى فرضها الواجب.


قد يهمك:

عن الكاتب:
اترك رد

2 تعليقات
  1. غير معروف يقول

    شكرا للمرور محاسن الجاك
    نعم تضحيتها كبيرة القصة جمعت بين الخيال والواقع
    ولمثاليتها استحقت اسم الملاك

  2. محاسن الجاك يقول

    القصة جيدة والحبكة ممتازة من حيث اللغة
    الا انها مثالية اكثر من اللازم

    صعب جدا في الحياة الواقعية مثل هذه التضحية