«التربة الحمراء».. سِحْرُ أدبيٌّ أصاب ذهني في مقتل!

بقلم – إبراهيم فايد

بادئ ذي بدء، -وأنا الذي لم أعتد يومًا إفراطًا في إطراءٍ إلا بحق- أتوجه بخالص شكري وتقديري حاملًا مشاعل النور وباقات التهانئ والتبريكات لأديبِ أَبْدَعَ عملًا بمثل هذا الحجم، ليس فقط هذا الحجم من عدد الصفحات، لكنه حجم الرفي واللغة والأسلوب والسرد والحبكة والصراع والشخصيات والأهداف والغايات.. إلى آخر ما ساقه لنا من دلالاتٍ وعلوم وثقافاتٍ تمخضت بطوابع التاريخ والحضارة والدِّين والواقع والخيال، عملٌ أدبيٌ جمع من الماضي والحاضر والقادم ما جمعه، عملٌ عشت معه، بل عشت خلاله شهرًا كاملًا على متن تلك التربة الحمراء التي تخضبت بدماء أبرياء ما ارتكبوا مِن أَمْرِهم جُرْمًا إلا طُهْرَ الرحم ووثاقة أنسابهم بقتلةٍ مارقين في عصور سحيقة، أو كما عبَّر الكاتب بعبارته “انتقامٌ بأثرٍ رجعي”، شهرًا كاملًا أطالع تلكم الأبجديات التي تناثرت كاللآلئ فوق صفحات عملٍ حمل خلال طياته أكوامًا لا حصر لها من المعارف والعادات والعلاقات والمعاملات ومبادئ الفكر وأدبيات الجريمة والظلم والخداع والبطش والقهر والذكاء والمكر والخبث والثقة وانعدامها، وعشرات ومئات وألوف مواطن الإبداع التي اقتحمها الكاتب حاملًا كِنانة مِداده، شاهرًا قلمه إلى مالانهاية الأفق.

رواية «التربة الحمراء»، هي من تأليف الكاتب والأديب المبدع «مروان محمد عبده»، وقد اعتدت منذ أن بدأ قلمي يخُطُّ في صاحبة الجلالة وما عاداها من دور النشر والأدب والمكتبات، ألَّا أطلق لفظة «أديب» تلك إلا حال استنبطْتُ أدبية صاحبها بحق، وبكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ لا حصر لها تَفُوق مجرد دلالتها على كاتِبٍ أو شاعر، وعلى كلٍ، استطاع المرواني هذا، بل «الرهواني»، أن ينطلق بسرعة فَرَسٍ عربيٍّ أصيلٍ وقد جمح وتمرد على شطآن الركاكة التحريرية المنتشرة حاليا؛ ليؤسس ركائز مدرسته الجديدة في الأدب العربي، مدرسته التي وددت من أعماق قلبي لو اتبعها ولو عشرة كُتَّابٍ فقط؛ والله لعادت مصر إلى صحيح دورها ومكانتها تتقدم صفوف الأدب العربي.
بكل حنكة وثقة، استعرض الكاتب بمِداده عوالم الدين والأجناس والأعراق ومدى الترابط والتنافر بين معتنِفي كل كيانٍ أو شعيرةٍ أو عقيدةٍ أو لغةٍ أو موطن، فقد سلَّط الضوء على الصراع السني الشيعي والحنق المتبادل بين إيران وماعاداها من دول عربية، مُذْ مقتل سيدنا «الحسين بن علي» رضي الله عنهما، وكيف أن بعض “الروافض” الشيعة لا زالوا على عهدهم الفارسي القديم يعُدُّون العُدَّة ويشُدُّون الرِحال وينفثون سمومهم لمعاقبة أُمَّة العرب ومَن يخرج مِن أصلابها إلى يوم الدِّين، ولا شك لعبت السياسة وتلعب وستلعب أدوارًا عديدة في هذا الأمر كما مهدت الرواية لذلك، ولم يغفل الكاتب في هذا السياق أن يتعرض لفرضيات عمل الشرطة المصرية -وهي التي تنطبق لا شك على معظم الأجهزة الأمنية العربية- من حيث الرتابة والخلل وقصور الغايات والآلية في التعامل مع مجريات الأمور مهما تعاظمت!

«التربة الحمراء» روايةٌ أكبر بكثيرٍ مِن أن ألخص مضمونها وأتحدث عنها في مقال نقدي متواضع، فالرواية بكل عناصرها وخصائصها وسماتها تحتاج مُجَلَّدًا نقديًا كاملًا بحجم ثلاثة إلى أربعة أضعاف الرواية التي حملت بباطنها ثمانمائة وستٌ وستون (866) صفحةً ذاخرةً وعامرةً بشتى صنوف الأدب وألوانه وألحانه.
وعلى النقيض -وكما اعتدتموني دومًا- أفرد للسلبيات مجالها كما للإيجابيات، ولعل أبرز ما ساءني مِن سلبياتٍ هنا يقتصر على الإفراط المبالَغ فيه ببعض أجزاء الرواية في الشرح والتفسير وعرض المعلومات التاريخية والوثائقية بشكل أقرب إلى البحث العلمي أو التاريخي، أيهما أقرب.. بحثًا أكاديميًا بشكلٍ عام؛ قد يدفع القارئ للملل والحنق أو على الأقل تخطي وتمرير تلكم الجزئيات بأقصى سرعة دوران Roller الماوس؛ إذ أن عِلْمها لا ينفع وجهلها لا يضر -من وجهة نظري المتواضعة- ولا تفيد بتاتًا البتة في مجرى أحداث الرواية، وفي أحايين عديدة أخرى كانت تلك ميزةً كبرى وضعت القارئ على طريقه المستقيم ليهتدي لمدلول الرواية وأهدافها وغاياتها وسير أحداثها بشكل أفضل وأكثر وضوحًا.
وللحيادية وكما يقول المنطق هنا، أن الراوي وإن أَفْرَطَ في سرد ما لا يفيد، فإنه أفضل وأرقى وأثمن كثيرًا من الإفراط في الحرص والبخل على وعي قارئه وإدراكه لحقائق الأمور وبواطنها، إلا أنني كنت أفضل -وأنصح كاتبها العزيز- بِسَبْرِ أغوار الرواية أكثر أمام القارئ، عبر فصل الجزء الوثائفي والمعرفي الذي من الممكن استئصاله ولا يضر مجرى الأحداث في شيء، وجمْعِه في كِتابٍ بحثيٍّ تاريخيٍّ يرضي طموح المتخصصين ومحبي هذا اللون من التوثيق والتفسير؛ وبكذا لا يطغَى البحث على الأدب ولا الأدب على البحث ولا يطغيا كِلَيْهما على مخيلة القارئ.

أخيرًا تبقى الرواية مرجعًا لا بأس به أرشحه للهيئة العامة للكتاب لطباعته على أجزاء عديدة كما قسمها الكاتب لستة فصول، فهذا العمل لا يجب أبدًا وبأي حالٍ مِن الأحوال معاملته كونه كتابًا عابرًا أو روايةً شاردةً وسط مئات الروايات، لا والله ما هو هكذا ولا يجب بخسه أبدًا بتلكم الطريقة، وأنتظر بقلبي وعقلي ومهنيتي الأدبية المتواضعة أن يُخْرِجَ الله مِن أصلاب قادة الثقافة المصرية مَن يعيد للأدب أمْرَ رُشْدِهِ ويستعين بمثل تلك الروائع والإبداعات الشبابية؛ التي لا تقبل أبدًا إلا تحويلها لسيناريو دراميٍّ يكون من تراثيات الإنتاج الإعلامي المصري عبر العصور، كَغَيْرِهِ مِن أعمالٍ غَزَوْنا بها حصون الفن العربي من المحيط إلى الخليج في وقتٍ كانت فيه مصر المتصدرة دومًا كل وأي حَسَن.
#إبراهيم_فايد


قد يهمك:

عن الكاتب:
اترك رد