في ذاكرة الوطن، سطور من نور لا تُنسى، حكايات عن شعب قرر أن يكون السدّ المنيع أمام أطماع الغزاة، وأن يسجل اسمه في صفحات المجد. من قلب ميدان المنشية، حين أعلن الزعيم جمال عبد الناصر قرار تأميم قناة السويس في 26 يوليو 1956، لم يكن الصوت صوت رجل فحسب، بل صوت أمة بأكملها قررت أن تنهض، وأن تواجه قوى الاستعمار العالمي بلا تردد.
تأميم القناة… لحظة التحدي
لم يكن قرار التأميم مجرد إجراء اقتصادي، بل كان إعلانًا عن ولادة مصر الجديدة، مصر الثورة، والسيادة، والكرامة. قناة السويس، ذلك الشريان الحيوي للتجارة العالمية، عادت إلى حضن الوطن، فارتعدت قلوب الغرب، وسارعت بريطانيا وفرنسا، بدعم إسرائيلي، إلى شن عدوان غاشم في محاولة لاستعادة ما خسروه.
بورسعيد… المدينة التي أذلت المستعمر
في 5 نوفمبر 1956، بدأ العدوان الثلاثي على مصر، وكانت بورسعيد أولى ساحاته، تلقّت المدينة الصغيرة ضربة بالنابالم والرصاص، فأحرقت أحياء بأكملها، ودُمرت مناطق سكنية، لكن المدينة لم تركع. على العكس، تحوّلت إلى ساحة للمقاومة الباسلة، حيث قاتل المدنيون جنبًا إلى جنب مع الجيش، في أزقة ضيقة تحولت إلى ساحات معارك طاحنة.
المقاومة الشعبية… أبطال بلا رُتب
في ظل هذا العدوان، برزت أسماء كتبت المجد بأفعالها، ومنهم:
- زينب الكفراوي، أيقونة الفداء، أول سيدة فدائية تنضم للمقاومة الشعبية، لم تخف من الاحتلال، وكانت تجمع التبرعات للجيش، وتشارك في دعم العمليات الفدائية، لتثبت أن المرأة المصرية كانت دومًا في الصفوف الأولى.
- السيد عسران، بطل شجاع اغتال “الماجور جون وليامز”، رئيس مخابرات القوات البريطانية في بورسعيد، في عملية نوعية أربكت العدو.
- الضابط إبراهيم الرفاعي، أسطورة الصاعقة المصرية، قاد عمليات فدائية جريئة ضد الدبابات والمقرات البريطانية، مستخدمًا الصواريخ في قتال شوارع لم يكن لعدو مدجج أن يتوقعه.
أسر الضابط البريطاني “أنطوني مور هاوس”، ابن عمة الملكة إليزابيث، كان ضربة معنوية قاسية للعدو، وأثبت أن العزيمة الشعبية أقوى من جيوش مدججة.
مآثر لا تموت
المقاومة هاجمت دوريات العدو، نصبت الكمائن، وأحرجت بريطانيا وفرنسا أمام العالم، ما أدى إلى فضيحة سياسية، وإجبار القوات الغازية على الانسحاب خلال أسابيع، بعد ضغط دولي واسع بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في مجلس الأمن.
رسالة إلى الأجيال
التاريخ لا يُكتب بالحبر فقط، بل بالدم والشجاعة والتضحية. بورسعيد لم تكن مدينة على الخريطة، بل رمزًا للأمل والكبرياء، وقد أثبت الشعب المصري أنه كلمة السر في كل معركة، وسيظل يقلم أظافر كل من تسوّل له نفسه المساس بكرامته، سواء كان أسدًا عجوزًا أو ضبعًا جائعًا.
كم من زينب الكفراوي نحتاج اليوم؟ وكم من سيد عسران ننتظر؟ وكم من إبراهيم الرفاعي يسكن بيننا؟
ربما لا نعرف الأسماء بعد، لكن ما نعرفه أن الشعب الذي صنع هذا المجد… لا يموت.