((الحلم – ما بعد النهاية)).. رواية تراجيفانتازية لكاتبها المتألق “عبدالفتاح الهلالي”


في لحظة صفا وتجلٍ، وبينما أنا شاردٌ أجوب مكتبات أرض الكنانة، استسفي رحيق رُواتها ودُرَرِ دور نشرها، إذ تَجَلَّى على خُلْوَتي الفكرية أحد فوارس الرواية العربية ومَغاوِرِها وأبا زيدها “الهلالي.. عبد الفتاح” وأطل يلوح برواية جديدة أسماها ب “الحلم.. ما بعد النهاية”، تلك الرواية التي حملت في طياتها الكثير من دروب الخيال والخوف والفزع والإرهاق والمسؤولية والكفاح من أجل العلم ومدى تقديره وتبجيله لدى أهلينا في أرياف مصر والغربة لأجله، وكذا ضوابط وقيم حفظ الأمانة وردها وما يستدعيه من مغامرات.
حقًا لا ولم ولن أجد وصفًا لها إلا أنها حلم، وأي حلم؟ إنه حلم صعب التفسير والتأويل والتعايش.. حلم شديد الوطيس، احتمَى فأطاح بمُخَيِّلات من حَوَتْهُ أذهانهم.. لا والله ليس بحلم، بل هو حِمْلْ.. حِمْلٌ عظيمٌ أثقل كهول أدمغةٍ لطالما عُذِّبَتْ وانتحبت طيلة خمسة عشر فصلًا تُدْمي العليل قسائمها من شدة وطأة أحداثها الجسام.

دعونا نخوض بعيدًا عن ذاك الوادي الأدبي الضيق الذي قد يراه البعض مدحًا ومفخرةً ومجاملةً لكاتبٍ كمئات آلاف الكتاب، فلنوافقكم الرأي لا داعي لجدال، ولكن تبقى الرواية ما بين أيدينا هي أكبر وأوثق وأعظم وأدمغ دلالات حسنها وبهائها وترابطها..
رواية “الحلم.. ما بعد النهاية” تحكي قصة طالب علم تغرب ليدرس بجامعة القاهرة ويعيش بشقة عتيقة يملكها والده منذ عشرات السنين، عاش بها الطالب الذي دفعه سوء حظه لأن يجد صحيفة ما فإذ به يَنْكَبُّ على قراءتها، لتظهر له حروفها فيما بعد على هيئة أحداثٍ مرئيةٍ صعبةٍ مدميةٍ مخزيةٍ منها الحلم ومنها الخيال، إلى أن يستفيق نهاية على كونها جميعها أوهامًا، وما إن بدأ يستفيق من غفوته إلا وارتطم بحقيقةٍ أفظع بأنه ليس إلا حقل تجربةٍ لأحد رجالات العلم الذي أفني حياته لتطوير العلوم الإنسانية بمُخَيِّلاتها وذاكراتها وأحاسيسها واستشعاراتها، واستعان بالبطل ليكون خير مرشد لنتيجة أبحاثه.

والرواية -كما قرأتها- هي عملٌ أدبيٌ تراجيديٌ تخللته الكثير من مواضع الفانتازيا الموحشة، ورغم عميق بُغْضِي للفانتازيا وأطروحاتها، إلا أن براعة الكاتب في ربط الخيال بالواقع كان له ما له من الأثر والوقع في أحشاء قلبي وأسارير عقلي ودروب خيالي، إلى الحد الذي تبدلت فيه لحظة الصفا تلك لِواقعٍ قاسٍ أسودٍ مرير، وقد تَجَلَّى ذاك الوقع على قَسَمات وجهي في صورة عَبَراتٍ سالت تتلألأ بأحزانها، توحي لمن يراها بمدى الصراع الداخلي والأسى الذي لاقيته كقارئ مسكين؛ ولعل ذاك الإيحاء ينبع من معايشتي داخل أروقة الرواية لظلم الحياة وواقعها المرير الذي نحياه، والذي جسَّده الكاتب في صور بَطْشِ عِلْيَةِ القوم وافتراءاتهم، وكذا تجسيده لإباء شياطين الإنس وأدعياء التُّقَى إلا أن يُضِلُّوا أتقياء العباد بحق.. لعل عَبَرات الكمد تلك نتجت عن معايشتي داخل أروقة الرواية لحياة الغربة ومحاذيرها وأوهامها وسوءاتها وشوكاتها.. لعل أحداث الرواية حملت في طَيَّاتها معاني انفراجة الثقة وزوالها في تلك الدنيا الملعونة التي أحاطها فراق الموت من كل حدبٍ وصوبٍ.. لعل لعل لعل، تعددت الأسباب والنهاية واحدة محسومة لا تأويل لها سوى الرعب والفزع والصدمة والهم والغم والكآبة والفراق والغربة والوحدة والموت والاغتصاب والخيانة واليأس والإحباط والخمول والهوان والشك والترقب، كل ذلك كان كفيلًا لإبراز مدى تأثري؛ إذ تفاعل مع كينونتي كقارئ وما أمُرُّ به وترتإيه روحي في تلك الفترة القاسية من عمر ابتلاءاتي.
فقارئ تلك الرواية لم يقرأ رواية تراجيدية فحسب.. وحتى لم يستشعرها كسيناريو معروض فحسب، بل عاشها كإنسِيٍ جذبته أغلفتها واعتقلته تلابيب صفحاتها ولم تتركه إلا داخل واقعها ليعيش مع سرد كاتبها وأوصافه وحكاياه كأحد أبطال القصة بحق، وهذا إن دل فإنما يدل على بديع صوغها وريعان نسقها.

تقييمي المتواضع للرواية الجميلة العجيبة -كقارئ وناقد وصحفي متابع لجديد الأدب وإبداعاته- أرى أن الكاتب استطاع بمنتهى الأمانة أن يختار أبطالها ويمركزهم حيث أراد، وأن يطهو حبكته على نار هادئة لتنتج زَكِيِّ بخارها يُثْمِلُ من يتناوله من القراء ويحركهم بعدها متى وأينما وكيفما شاء.. يقنعهم تارة ويشككهم أخرى.. يرعبهم مرة ويطمأنهم ثانية.. يحتويهم ويلفظهم.. وبِذا يكون قد حقق مختلف معايير الإبداع الأدبي من شخوص وحبكة وسرد، بل تجاوز ذلك ليحيك شباك إبداعه على مُخَيِّلة جمهور قراءه.

وللحيادية كما اعتادني قرائي الأعزاء دومًا، وليسمح لي الكاتب المبجل أن ألفي الضوء على بعض نقاط الضعف كما استشعرتها ورفضها شَوفي وتَوفي للقراءة، فإنني ألوم عليه في بندين اثنين..
أولُّهُما: إصراره على إبراز بعض أوصافٍ شبه تفصيلية للقهر الجنسي الذي تعرضت له إحدى شخصيات الرواية، فكنت أود لو أنه مَرَّ عليها مرور الكرام والقارئ بطبيعته سيعي ما يدور، فمن أراد أن يُبْحِرَ بمُخَيِّلته فليُبْحِرْ.. ومن أراد الاستعفاف فليستعفف؛ لاسيما كَوْنَ الرواية تحمل أرطالا من بحت التراجيدية، فهنا تناقضٌ رهيبٌ أراه بين عالَمَيْنِ أحدهما يحث على الزهد والعزلة والكمد، والآخر شهوي يدعو لما يدعو له.
وثانيهما: مبالغة الكاتب في تكرار نفس الحدث كلما أراد نفس النتيجة !
وبالمثال من واقع الرواية، أستشهد بلجوء الكاتب لأن يتعرض البطل لصدمة حِسِّية أو معنوية لِتُودي به إلى عالم اللاعالم فيُغْشَى عليه ويتيه في أحلامه ومُخَيِّلاته ليستنبط أحداثًا أخرى، وقد كنت أود لو أنه ارتَأَى طُرُقًا أخرى يستبط منها البطل تلك الأحداث غير أنه يُغْشَى عليه ويحلم وفقط في كل مرة بشكل دوري كثيف يمل منه القارئ أحيانًا.

ختامًا لا داعي للتأكيد على أن تلك الملاحظات تختلف من قارئٍ لآخر ومن ناقدٍ للثاني، وقد يكون ما أراه سلبًا لدى الآخر إيجابًا والعكس، وهنا لا أملك إلا أن أتقدم بخالص شكري وتقديري وامتناني للكاتب المتألق وحُسْنِ صنيعه، مقرونًا بخالص أمنياتي بدوام التوفيق والسداد.


قد يهمك:

عن الكاتب:
اترك رد