إبراهيم فايد يكتب: عودة راسبوتين.. رواية جامعة لفنون الأدب

دائمًا ما يقال بأن اللقاء الأول هو ما يترك في النفس ما يتركه تجاه شخصٍ أو كيانٍ أو شيءٍ ما بعينه، أو أن الانطباع الأول هو ما يؤثر بِحَقٍّ على معطيات تلكم النظرة القلبية ما بين طرفين اثنين، ولعل هذا ما أصابني واستشعرته من الوهلة الأولى التي جمعَت ناظري بحروف تلك الرواية الأكثر من رائعة.. بل تلك الموسوعة الشاملة التي جمعت بين شتَّى ضروب الأدب وفنون السرد وعلوم التاريخ وخبايا المصريات القديمة وطلاسمها وأسحارها وما بين أيديها وما خلفها لتضع ذلك كله في رحاب روايةٍ أدبيةٍ قيِّمةٍ نالت من الإعجاب والإشادة والإطراء الكثير والكثير..

“عودة راسبوتين” هي رواية فانتازيا شاركت بها الكاتبة “صفاء حسين العجماوي” ضمن معرض القاهرة الدولي للكتاب 2018، والرواية جمعَت من مختلَف فروع الأدب ما جمعَته، ثم ما لبِثَت إلا أن صاغته في قالبٍ دراميٍ ملائمٍ يتماشى مع رغبات القارئ أيًا ما كانت رغباته تلك أكشن كوميدي تراجيدي رعب فارس.. إلخ، ولا شك أن هذا الأسلوب وإن كان يثير حفيظة البعض من أولئك الملتزمين من مدرسة الأدب المحافظ الداعي إلى استقلالية كل فرعٍ أدبيٍ بحيث تبرز الرواية تبيان ودلالات ما إذا كان الكاتب يروي حقيقةً أم خيالًا.. رعبًا أم كوميديا.. مضامين إنسانيةً أم تاريخية، وكذا مَن يسير على دربهم ممن قد أبدَوا تعجبهم واندهاشهم واستغرابهم واستنكارهم لهذا الخلط المتعمَّد، إلا أن المزج الأدبي هذا هو الأرقى والأنقى والأدق في نظري؛ لجذبه جموع القراء وتوحيدهم ضمن بوتقةٍ أدبيةٍ واحدةٍ ورايةٍ تحريريةٍ فريدةٍ تقتاد القارئ ويقتادها طيلة مشواره ليصلا معًا في نهاية المطاف إلى مرفأ أمانٍ يرسيان فيه.

الرواية تتحدث عن قصرٍ أثريٍ حقيقيٍ يقع على طريق القاهرة – إسكندرية الصحراوي، والذي يتميز ببنيانه الفخم المهيب وطرازه الفريد من نوعه وموقعه المنعزل عن العمران؛ الأمر الذي أوحى للكاتبة بتقمص فكرتها الفانتازية والبناء عليها في أحداث متلاحقة تظهر كيف أن العالم يتآمر على مصر والمصريين للإيقاع بهم في شَرَكٍ لا ينجون منه ولو بِشِقِّ الآنفس؛ حيث تُشَخِّص الرواية رموز الشر من جنسيات أجنبية ما وقد حضروا إلى أرض الكنانة واستحضروا أرواح مصريين قدامى بشكلٍ غير شرعيٍ يتنافي مع تعاليم فراعنة مصر وكهنتها، لينتهي المطاف بهؤلاء الخونة ومعاونيهم إلى الهلاك، كما تستعرض الكاتبة أحداثًا مرعبةً وقعت في هذا القصر الغامض، وربطت في سياق حديثها بين الماضي والحاضر، وكذا استعرضت بعض القدرات الخارقة للمصريين القدماء ومدى تَمَكُّنهم من خبايا السحر واستغلاله في الحفاظ على المحروسة أم الدنيا آمنةً مطمئنةً من كل سوء.

وما بين لحظات رعبٍ وتَجَلٍّ وإذعانٍ وخوفٍ وكوميديا وثقافةٍ وخيالٍ وفانتازيا، نجد مرآة الزمن تنقلنا عبر الزمان والمكان إلى عَبَقِ التاريخ ثم تعود، وتأخذ بتلابيبنا من شرق مصر لغربها ومن هنا إلى هناك وهنا وهناك، حتى نجد الكاتبة تتبختر بقراءها في ثباتٍ انفعاليٍ حقيقيٍ حافظَت فيه على تألُّق كل شخصيةٍ بِدَوْرِها المرسوم بعناية تجعلك كقارئٍ تستشعر واقعية الموقف وتتعايش معه بروحك وحواسك وجوارحك جميعها، للحد الذي مهما دلَّل فيه الكاتب على فانتازية المضمون وخياليته إلا أن القارئ مِن فَرْطِ اندماج مُخَيِّلته في بحر حروف الأحداث والصراعات المتلاحقة لا يعترف بوهمية الحدث ولا يستوعب زَيْفَ الصراعات، بل ويعيش هائمًا بين جناحَي الغلاف أعظم حُلْمٍ قد يعيشه عشاق الأدب والمولعون بجمال صحيفته.

وفي حقيقة الأمر -والكاتبة تدرك ذلك عني يقينًا- أنا لست من عشاق الفانتازيا.. بل تجاوزْت عدم عشفي لها بمراحل وأصبحْت معلومًا لدى رفاق دربي من محررين وكُتَّابٍ وكذا النقاد بمدى حنفي الشديد على الفانتازيا اللعينة تلك وما تغرسه في العقول وتنسجه في الأذهان من أساطير وأباطيل وأضاليل لا تَصْلُحُ إلا لِحَبْكِ أفلامٍ كارتونية ومضامين طفولية غريبة الأطوار، بل ووصل ضجري الشديد من صناعة الفانتازيا السينمائية والكتابة في رحابها إلى أن دوَّنْت سخطي للعلن بأن “لو كنت وزيرًا للثقافة لأمرْت بجمع وحرق وإعدام كافة صنوف أدب الفانتازيا وضروبها -إن كانت تَمُتُّ للأدب بِصِلَةٍ- ولشاركْت بصفتي وشخصي في حملة الضبط والإحراق تلك، ولَطُفْتُ مسحًا بفهارس سلاسلها وهوامشها، مع توجيه تحذيرات غاية في الحدة لكاتبها وحامليها ومقدميها وقارئيها، وإلا النقي والسجن القسري والقهري عامًا يقبل التمديد داخل دور سينما خاصة لمحاكاة الواقع بصيغة 4D لتمثل الواقع بحركاته وسكَناته ولمحاته ولَفَتاته ولهفاته وشذراته وو.. الواقع وفقط.. وتقحمه قهرًا وجبرًا على مخيلات أصحابها.. وكفي بالفانتازيا كارتونًا للأطفال”.
>>> إلا أنني ووسط كل تلك الأفكار الشنيعة التي هي مجرد أهواءٍ شخصيةٍ بحتةٍ يبثها عقلي تجاه الفانتازيا والخيال الأدبي المقيت -في نظري- أُقِرُّ وأعترف وبلا أدنى شك وأنا في كامل قواي العقلية أن “عودة راسبوتين” فجَّرت بداخلي عيونًا وآبارًا نابعةً بعذب المياه وباردِهِ مما لم أستقه من رواياتٍ ومؤلَّفاتٍ عدَّةٍ صاغها عِظام الأدب وجهابذة القرطاس والقلم، وهذا إن دلَّ فإنما يدل على مدى رفي العمل بشخوصه وأحداثه وصراعاته وأهدافه وكافة بنود تكوينه وصوغه وسرده.

ختامًا، آمل أن ينال تعقيبي المقتضب هذا ما كُتِبَ لأجله ويضع أمام محبي الكاتبة ومتابعيها وقارئي “عودة راسبوتين” مرجعًا نقديًا من طرازٍ مختلِفٍ يجمع رؤًى نقديةً مع أهواء شخصيةٍ ويربطهما ببوصلة التحرير الصحفي، وأن ينال وبلا شك رضا الكاتبة على ذات شاكلته من ثناءٍ أو ثَلَب، وللكاتبة مني ودار النشر كل تقدير مع خالص أمنياتي بدوام التوفيق والسداد،


قد يهمك:

عن الكاتب:
اترك رد