أســـرار الفراسة.. وهل هي موهبة أم مكتسبة؟

الفراسة، لغةً: مصدر للفعل: يَتَفَرَّس، بمعنَى: يَـتَـثَـبَّـت، أما الفِراسة إصطلاحًا: فهي الإستدلال بالأمور الظاهرة على الأمور الخفية، أو: الإستدلال بالخِلقة الظاهرة على الأخلاق الباطنة، أو: هي موهبةٌ تتأتَّى للشخص من نقاء سريرته وفطنته ودقة ملاحظته.

والفراسة من الطباع الراسخة في الثقافة العربية، منذ أيام الجاهلية، فقد كان العربي دومًا شغوفًا بالخيل، وإلى الآن يُعد الفرس العربي أجود أنواع الخيل في العالم، وكان العربي القديم يتفرّس الفرس قبل شراءها، لأنه يقصِد إلى إنتاج سلالة ممتازة منها، سواء لإستخدامه، أو للإتجار بها، فيعاين الفرس بالنظر إلى أعضاءه، رأسه وعظامه وجلده ولونه وأَبعادَه، فصارت الفراسة من المهارات المعتبرة لدى العرب.

والفراسة من الآليات غير اللغوية، التي تبحث في الدلالات الخفية، وتعتمد على اللامنطوق، ولها شروط معينة لصدقها كالنقاء والفطنة، حيث تميز العرب القدماء منذ العصر الجاهلي بهذا النوع من العلوم، والفراسة خُلُقٌ حَسَن، فإن توسّمتَ في أحدهم خيرًا إستبشرت به، وإن رأيتَ فيه عيبًا سترته وفارقته، لا تشهّر به، ولا تذكره بسوء.

والفراسة، غير الإلهام، فالإلهام يتأتَّى دون الحاجة إلى تفرُّس صورة الشخص، كما أن الفراسة تختلف عن سوء الظن الذي هو غِـيبَة القلب، فما ظننتَ بأحد سوءًا إلا كان مبعثه خُبثُ حالٍ فيك تقيسه على غيرك.

كما أن الفراسة ليست مما يتأتَّى للرائي، بفعل تأثير هالة الشخص الذي أمامه Halo effect بمعنى إذا رأيتَ شخصًا ذا ملامح جذابة أو أنيقَ المظهر، فإنجررت إلى إعتباره شخصًا جيدًا بالجملة، فليس هذا من الفراسة في شيء، كما أن الفراسة ليست مايقوم به المخ، عند رؤية شخص لأول مرة، فيستدعي المخ شخصية ذات ملامح أو هيئة مشابهة، من تلك المخزّنة في الذاكرة، ويكوّن عنه نفس الإنطباع، ويرى فيه نفس الرأي.

والفراسة ليست مما يخضع للقياس الفسيولوجي، فالطب الحديث لا يصنف الفراسة من الناحية العضوية أو حتى العصبية، إنما هي أمرٌ يتعلق بدراسة علم النفس وأحوالها.

وقد إشتُهر عند العرب أوجه من الفراسة،مثل:

عيافة الأثر

أو فراسة الأثر، وتعني فراسة أثار السير على الأرض، هل هو أثر لإنسان أم لحيوان؟ وما طوله وما وزنه وما عمره وما جنسه وما صحته، ويستطيع صاحب الفراسة التفريق بين أثر أقدام الرجال وأقدام النساء وأقدام الشيوخ وأقدام الشباب، كما كانت العيافة تستخدم في تتبع الهارب أو الضال من الحيوانات أو البشر، وكذلك تتبُّع أثر الفريسة عند الإشتغال بالصيد، وعُرف عن كل من بني مدلج وبني لهب، فراسة الأثر.

والقيافة

وهى الفراسة المستخدمة في معرفة قرابة وأنساب الناس، فيُعرف للشخص قرابته وسلالته وقبيلته، برؤية الظاهر من أعضاءه، كالكتف والظهر والأقدام والسيقان والأذرع، وكل هذا من خلال الهيئة الخارجية فقط، وقد عُرف عن بني أسد وبني مدلج وبني سليم، بالقيافة.

رُوي عن الشافعي انه قَصَدَ اليمن ليتعلم الفراسة، وظل يتعلمها ثلاث سنوات حتى أتقنها، وفي طريق عودته إلى مكة، وقف عند أحد الدور يطلب ضيافة صاحبها حتى الصباح، فما إن رأى الشافعي ذلك الرجل إلا تَفَرّسه أنه رجل لئيم، وليس بالمضياف.

ولكن الشافعي تفاجأ بأن الرجل رحب به، وأدخله منزله، وأطعمه، و وفر له غرفة مريحة لمبيته، فظل الشافعي يتقلب في ليلته، ويقول لنفسه: خابت فراستي في الرجل.

فلما أصبح وعزم على الرحيل، شكر مضيفه، وقال له من باب رد الجميل: إذا نزلت بمكة ومررت بذي طوَى فإسأل عن الشافعي، فرد عليه الرجل بفظاظة: أخادم أبيك أنا؟ وقدم للشافعي ورقة مدون بها بيان ما قدمه للشافعي من خدمات، طالبًا قيمتها، فَرِح الشافعي بمطالبة الرجل له، ودفع له ما أراد، وإطمأن لتعلمه الفراسة.

يقول الدكتور يوسف مراد (1902 ـ 1966) وهو عالِم نفس، ومؤسس مدرسة علم النفس التكاملي ـ في كتابه: الفراسة عند العرب: “إن الأمر المتعلق بالفراسة، والذي بدأ قديمًا في اليونان ثم إنتقل إلى أرض العرب، ربما كان ذا علاقة بإعتقاد تناسخ الأرواح، حيث إن الكتابات الأولى فيها كانت تصف وجه الشخص بالنسبة للحيوان القريب منه، فيكون الشخص ذا وجه قريب من وجه الكلب أو الأسد أو الخنزير، مما يدفع الكاتب لتصور أنه يمتلك صفات من تلك الحيوانات، كالعطف أو الإخلاص أو الشجاعة، إلخ، وهو ما فتح الباب لاحقًا لتأملات أكثر تعقيدًا بناءًا على الأفكار الأولية نفسها”

وقد دَرَسَ الفراسة كثير من العلماء العرب، كإبن رشد والرازي، وإبن قيّم الجوزية الذي ألّف كتابًا عن الفراسة، وأورد فيه أمثلة لفراسة بعض الأشخاص، منها:

  • جاءت القاضي: شريح بن الحارث، امرأة تخاصم رجلًا، فأرسلت عينيها وبكت، فقيل لشريح: يا أبا أمية، ما نظن هذه البائسة إلا مظلومة؟ فقال: إن إخوة يوسف جاؤوا أباهم عشاء يبكون.
  • ما ذُكر عن أحمد بن طولون، أنه رأى حمّالًا يحمل صنًّا، وهو وعاء يشبه السلة يوضع فيه الخبز، والرجل يضطرب تحته، فقال: لو كان هذا الاضطراب من ثقل المحمول لغاصت عنق الحمال، وأنا أرى عنقه بارزة، وما أرى هذا الأمر إلا من خوف، فأمر بحط الصن، فإذا فيه جارية مقتولة وقد قطعت! فقال الرجل: أربعة نفر في الدار الفلانية أعطوني هذه الدنانير، وأمروني بحمل هذه المقتولة، فضربه إبن طولون وقتل الأربعة.
  • كان أحمد بن طولون يتنكر ويطوف بالبلد يسمع قرّاء القرآن، فدعا واحدًا من رجاله، وقال له: خذ هذه الدنانير وأعطها إمام مسجد كذا، فإنه فقير مشغول القلب، ففعل الرجل، وجلس مع ذلك الإمام وباسطه، فعرف أن زوجة ذلك القاريء قد أتاها طلق الولادة، وليس معهُ ما يحتاج إليه، فقال الرجل: صَدَق إبن طولون، عَرَفَ شُغل قلب القاريء، من كثرة غَلَطِه بالقراءة.

فيما قد تُفيد الفراسة؟ سؤال نختم به، والإجابة: فضلًا عن أن الفراسة الصادقة تحقق نتائج عملية في مجال العيافة والقيافة كما تَقَدّم، فإنها قد توفّر عليك مشقة التجارب الإنسانية الفاشلة، أو المؤذية، وتَهديَك إلى الأشخاص المتوائمين معك.

وأنت.. هل تعتقد ـ كما أعتقد أنا ـ أن الفراسة موهبة؟ أم أنها مما يُمكن أن يُكتسب؟

 

 

 

 

 


قد يهمك:

عن الكاتب:
اترك رد


جميع المحتويات المنشورة على موقع نجوم مصرية تمثل آراء المؤلفين فقط ولا تعكس بأي شكل من الأشكال آراء شركة نجوم مصرية® لإدارة المحتوى الإلكتروني، يجوز إعادة إنتاج هذه المواد أو نشرها أو توزيعها أو ترجمتها شرط الإشارة المرجعية، بموجب رخصة المشاع الإبداعي 4.0 الدولية. حقوق النشر © 2009-2025 لشركة نجوم مصرية®،جميع الحقوق محفوظة.