من المستقبل جاءنا “آدم” يروي لنا قصته مع مدينة الرماد. عندما استيقظ عام 2075 على صوت إنذار الطوارئ، ركض إلى النافذة، لكن كل ما رآه كان سماءً رمادية خانقة، وشوارع مغطاة بالغبار السام. لم يكن هناك أشجار، فقط أبراج شاهقة محاطة بجدران زجاجية تمنع الهواء الملوث من الدخول. لم يكن آدم يعلم ما هي الغابات، ولم يرَ في حياته نهرًا صافياً. كان الماء سلعة نادرة تُباع بأثمان باهظة، وكان الأطفال يلعبون بأقنعة الأكسجين بدلًا من الطائرات الورقية. كانت عيناه تبحثان عن إشراقة الأمل في سماء مليئة بالرماد.
في تلك المدينة الكئيبة، تمنى آدم لو كان قد تعلم في طفولته أهمية الحفاظ على البيئة. فالتوعية البيئية التي غُيّبت عن الأجيال السابقة رسمت ملامح هذا المشهد القاسي، والصورة المرعبة لما قد يصبح عليه كوكبنا إذا لم نتصرف اليوم.
سفراء البيئة وبصيص الأمل
لكن هناك بصيص أمل في الأفق اليوم، وعلى أرض مصر، هناك مشاريع بيئية تهدف إلى تغيير هذا الواقع المظلم. من خلال مبادرات تعليمية للأطفال، تُبنى أجيال قادرة على إنقاذ كوكبنا من هذا المصير.
في وقت تتسارع فيه التحديات البيئية، يصبح الاستثمار في وعي الأجيال القادمة هو الحل الأكثر استدامة. من قلب محافظات مصر، تتجلى جهود برنامج المنح الصغيرة/مرفق البيئة العالمية في غرس مفاهيم الوعي البيئي بين الأطفال، ليصبحوا سفراء المستقبل في حماية الطبيعة. بين أزقة الوراق في الجيزة وساحات مدارس الأقصر، يشهد المشهد تحوّلًا ملحوظًا، حيث تقام الورش البيئية، والندوات التوعوية والزيارات الميدانية بحثًا حلول الاستدامة.
في حي الوراق بمحافظة الجيزة، اجتمع عدد من الأطفال في ندوة توعوية نظمتها جمعية “بيت على الصخر” ضمن مشروع “وراق جرين”، الذي يهدف إلى التخفيف من آثار تغير المناخ. خلال الندوة، تعرف الأطفال على أساسيات السلوكيات البيئية الصحيحة، مثل التخلص الآمن من النفايات وإعادة التدوير، بهدف إعدادهم ليكونوا “سفراء للبيئة” في مجتمعاتهم.
لم تقتصر الجهود على التوعية النظرية، بل تضمنت تدريبًا عمليًا للشباب المتطوعين، حيث شملت جلسات نقاشية حول دورهم في نشر الوعي البيئي، إلى جانب حملات ميدانية استهدفت ورش ومصانع الملابس في المنطقة. تم توجيه أصحاب هذه الورش إلى الاستفادة من نموذج المقايضة، الذي يسمح لهم بالحصول على سلع وخدمات مقابل تسليم مخلفات الأقمشة لإعادة تدويرها، بدلاً من التخلص منها بطرق ضارة بالبيئة.
الأقصر وتجربة “المستكشف الصغير” في محمية الدبابية
في محافظة الأقصر، وضمن مشروع السياحة البيئية والإدارة المستدامة لمحمية “الدبابية”، أطلقت جمعية “أبو بكر لتنمية المجتمع” برنامج “المستكشف الصغير”. يهدف هذا البرنامج إلى تعزيز مهارات الملاحظة والاكتشاف لدى الأطفال، وتشجيعهم على التفاعل مع الطبيعة من خلال زيارات تعليمية إلى المحمية.
خلال إحدى الزيارات، استكشف التلاميذ الصخور الجيولوجية النادرة، واستمعوا لمحاضرات حول أهمية الحفاظ على الموارد الطبيعية. هذا التفاعل العملي ساهم في تعزيز وعيهم البيئي وزيادة ارتباطهم بالطبيعة، مما يشكل أساسًا قويًا لسلوكيات بيئية مستدامة في المستقبل.
من روث الخيول إلى سماد عضوي.. أطفال الأقصر يتعلمون أسرار البيئة
في مدرسة الأقباط الكاثوليك الابتدائية بالأقصر، اجتمع عدد من الأطفال للمشاركة في ندوة بيئية نظمتها جمعية نور الإسلام الخيرية ضمن مشروع “توفير فرص كسب العيش بالتدريب على إعادة تدوير روث الخيول”، والممول من برنامج المنح الصغيرة لمرفق البيئة العالمية (GEF/SGP).
تحت عنوان “إعادة تدوير روث الحيوانات وعلاقته بالحفاظ على البيئة ومكافحة التلوث”، ألقى الدكتور حامد محمد إسماعيل محاضرة تفاعلية تناولت أهمية البيئة وكيفية حمايتها، ودور إعادة تدوير المخلفات العضوية في تحقيق الاستدامة. كانت الجلسة حيوية وتفاعلية، حيث اكتشف الأطفال كيف يمكن تحويل روث الحيوانات إلى سماد عضوي يسهم في الحفاظ على خصوبة التربة وتقليل تأثيرات التغير المناخي.
لم تكن هذه الندوة مجرد درس نظري، بل خطوة عملية في تنشئة جيل أكثر وعيًا بقضايا البيئة، وقادرًا على إيجاد حلول مبتكرة لمواجهة تحديات التلوث والتغير المناخي.
أهمية دور الأطفال في حماية البيئة ومواجهة تغير المناخ
يعتبر الأطفال عنصرًا محوريًا في جهود حماية البيئة والتصدي لتغير المناخ، فهم الجيل الذي سيرث هذا الكوكب. تنشئتهم على الوعي البيئي يضمن استدامة الجهود الحالية. يقول الدكتور عبد المسيح سمعان، أستاذ الدراسات البيئية وتغير المناخ، إن دمج القيم البيئية في التعليم والتنشئة الاجتماعية يساهم في بناء جيل قادر على مواجهة تحديات التغير المناخي.
بدورها، تؤكد الدكتورة هالة يسري، أستاذ علم الاجتماع بمركز بحوث الصحراء ورئيس اللجنة الوطنية لتسيير أعمال برنامج المنح الصغيرة، على أهمية إدماج التربية البيئية في أنشطة الأطفال. فتعليمهم العادات البيئية الصحيحة، مثل ترشيد استهلاك المياه وتقليل استخدام البلاستيك، يساهم في تشكيل جيل أكثر وعيًا وتأثيرًا في المستقبل.
كما أن تحفيز الابتكار البيئي لدى الأطفال يدفعهم إلى ابتكار حلول بسيطة لكنها فعالة، مثل إعادة التدوير وصناعة أدوات من المواد المستهلكة، ما يساعدهم على التفكير الإبداعي في مواجهة المشكلات البيئية، أي تحويل المحنة إلى منحة، وإكساب الطفل طريقة تفكير مميزة في التعامل مع المشكلات بشكل يكون أسلوب حياة في المستقبل.
جيل يعي مفهوم التنمية المستدامة
وتضيف دكتورة هالة أن الهدف هو تنشئة جيل مثقف لديه معرفة بكل ما يدور حوله في المجتمع، وليس جيل يفهم في الطب أو الهندسة أو العلوم فقط، وإنما ويدرك مفهوم التنمية المستدامة بمكوناتها (الاجتماعي والاقتصادي والبيئي). وقد تغفل المؤسسات التعليمية النظامية (المدرسة أو الجامعة) الاهتمام بالجانب التطبيقي في تكوين شخصية الطفل، مثل الاهتمام بالأنشطة والممارسة العملية.
وتكمل، وهنا يبرز دور مؤسسات المجتمع المدني، لما لها من قدرة على التواصل على المستوى القاعدي وتعاملها مع احتياجات المجتمع المحلي والثقة التي تكونت مع المواطنين، وذلك من خلال الأنشطة والفاعليات التي تقوم بها، لا ترتبط بيروقراطية أو روتين مما أكسبها مرونة وساعدها في تحقيق طموحات المجتمع المحلي.
دور المجتمع المدني في تنشئة سفراء البيئة
تلعب منظمات المجتمع المدني والجمعيات البيئية دورًا رئيسيًا في ترسيخ الوعي البيئي لدى الأطفال والشباب. يقول الدكتور عماد عدلي، المنسق العام للشبكة العربية للبيئة والتنمية (رائد)، إن مصر تزخر بالمبادرات البيئية، مثل مبادرة “100 مليون شجرة”، التي تهدف إلى تحسين واستدامة البيئة.
ويوضح عدلي أن المجتمع المدني يمتلك آليات فعالة لنشر الوعي البيئي، مثل ورش العمل، الأنشطة الميدانية، الزيارات إلى المحميات الطبيعية، والمشاركة في حملات إعادة التدوير وزراعة الأشجار. هذه الجهود تساهم في بناء جيل جديد لديه المعرفة والوعي اللازمين لحماية البيئة وتحقيق التنمية المستدامة.
سيناريوهات وتحديات
وفقًا لتقارير الأمم المتحدة والهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، إذا استمررنا في تجاهل الالتزامات البيئية وتقليل النشاط الصناعي الملوث، فإننا متهيئون لمستقبل مشابه لما عاشه آدم في مدن الرماد. تقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة لعام 2024 يبين أن استمرار الانبعاثات الحالية قد يؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة العالمية بمقدار 3.1 درجة مئوية بحلول نهاية القرن. هذا الارتفاع سيزيد من العواصف، وموجات الحر، والجفاف، بل ويهدد حياة سكان المدن الساحلية بسبب ارتفاع مستوى البحر.
وبينما تتزايد التحديات البيئية، تظهر الحاجة الملحة إلى تنشئة جيل قادر على التعامل مع هذه القضايا بوعي ومسؤولية. المبادرات التي ينفذها برنامج المنح الصغيرة لمرفق البيئة العالمية، بالتعاون مع المجتمع المدني، تسهم في ترسيخ مفهوم الاستدامة منذ الصغر. فهؤلاء الأطفال، الذين يتعلمون اليوم كيفية إعادة التدوير وحماية الموارد الطبيعية، هم قادة المستقبل البيئيون. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل نمنحهم الأدوات الكافية لإنقاذ الكوكب من مصير مدن الرماد؟
تليجرام فيسبوك الاتصال بنا من نحن الخصوصية فريق العمل حقوق الملكية EN